التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 03:16 ص , بتوقيت القاهرة

الحياة العادية أكثر سحرا من أي شيء في Boyhood

في أحد مشاهد فيلم صبا Boyhood  الممتازة - وما أكثرها في الفيلم - يسأل طفل صغير والده "هل يوجد سحر فعلا في العالم ؟". يجيب الأب بعد قليل من الحيرة بأنه لا يعرف، لكن كثيرا من الأشياء الحقيقية والاعتيادية جدا في حياتنا، لو فكرنا فيها سنجد مواصفاتها أقرب للسحر فعلا، وكنا سنعتبرها كذلك بالتأكيد لولا أننا اعتدنا مشاهدتها ووجودها باستمرار.


الإجابة تقريبا هى نفس روح الفيلم الساحر والمميز جدا الذي كتبه وأخرجه ريتشارد لينكلتر، ومرشح لاكتساح جوائز الأوسكار الرئيسية. الفيلم الذي بدأ تصويره 2002  وانتهى أواخر 2013، واختار فيه طفلين عمرهما 6 سنوات، منهما ابنته الحقيقية، ليصور معهما ومع باقي الطاقم التمثيلي مقاطع بسيطة سنويا على مدار 12 سنة، لتعرض في النهاية مُجمعة في مونتاج ممتاز بشكل ساحر وفاتن، قصة بسيطة واعتيادية جدا، لطفل أمريكي نضج من عمر 6 سنوات حتى بلوغه الـ 18 ودخوله للجامعة.



أول لقطة لبطلنا الصغير في الفيلم، هى نفس اللقطة التي تتصدر الإعلان والبوسترات الدعائية. نائما على ظهره باسترخاء على أرضية حديقة خضراء، ينظر للسحاب بينما تدور في رأسه عشرات الأسئلة والأفكار التي لا نعرفها. اللحظة الساحرة الحائرة التي عشناها جميعا كأطفال ولا نذكرها، عندما بدأ طوفان الأسئلة والاستفسارات والحيرة والرغبة في الفهم. على مدار الفيلم، ستتواصل نفس النظرة في مواقف عديدة مع نضجه المستمر. لن نعرف تحديدا ما يدور في رأسه كل مرة، لكن ستلمس هذه الحيرة والرغبة في فهم الآخرين واستكشاف العالم، طفولة ومراهقة أغلبنا.


علاقة لينكلتر بفكرة الزمن وما يغيره فينا النضج بمرور السنوات، علاقة وثيقة في أغلب أفلامه. ستجد هذا بالأخص في الثلاثية الرومانسية (Before Sunrise - Before Sunset - Before Midnight) التي صنعها أعوام  1995 - 2004 - 2013  ويعرض فيها قصة حب وانجذاب شخصيتين، بفاصل زمني 9 سنوات بين أحداث كل فيلم. 


ضمن عباراته الشهيرة كمخرج عن السينما:
الخاصية الأكثر تفردا في السينما على الإطلاق، هي أنها تمنحك فرصة فريدة لطي الزمن في عملك كفنان، سواء كان ذلك بإيجاز شديد أو بتفصيل.



 في Boyhood  يلجأ إلى تجربة أكثر تميزا، ويمد الخط بشكل متواصل بلا انقطاع أو فواصل زمنية. لن تحتاج إلى 9 سنوات لترى انعكاس المدة زمنيا على ملامح وشكل وسلوكيات الأبطال في فيلم جديد، بل ستجد النقلة مباشرة عاما بعد عام في نفس الفيلم، وهى تجربة فريدة لم نعرفها من قبل. مشاهدة "ماسون" وباقي شخصيات الفيلم، تكبر فعلا من عام لعام، بدون ماكياج أو استبدال ممثلين أو خلافه، خلقت مذاقا منعشا وصادقا ومتواصلا ودافئا، لم نتذوقه أبدا من قبل على الشاشات. 


المصداقية تزداد لأنه لا توجد هنا غرائب أو أحداث ومفاجآت غير عادية. لا توجد تراجيديا أو فنتازيا. أمامنا ببساطة قصة طفل ينمو لأبوين أمريكيين مطلقين، كعشرات الملايين من الأطفال. المدرسة.. النزهات العائلية.. العلاقة المتوترة بالأبوين.. المراهقة.. البلوغ.. أزمات العلاقة مع الجنس الآخر.. إلخ. الحوارات على بساطتها دائما ثرية، ودائما جذابة، وهي عادة في كل أعماله. 


خلال الرحلة سترى أيضا عشرات النماذج الأمريكية الأخرى المعروفة، مع ملامح عريضة لأحداث آخر عقد بالأخص. كل شخصية وحدث في الفيلم، ستلمس وترا حقيقيا لشخصيات وأحداث من واقع كل متفرج (خاصة المتفرج الأمريكي)، لأن لينكلتر كتب كل مقطع من القصة في نفس عام تصويرها، بشكل متوائم مع ما يعايشه ويشغل باله، وما يراه ويستشعره كل مرة في الشخصية الرئيسية، وممثلها إيلر كولترين فعلا عاما بعد عام.



 كولترين رائع لكنه لا يمثل هنا بالشكل الكامل المعتاد. ما نشاهده هو في النهاية يلمس جزءا من طفولته ونضجه فعلا. التميز التمثيلي هنا من نصيب الأم (باتريشيا أركيت)، التي قدمت أداء ممتازا، ازداد بريقه بفضل مدة التصوير الطويلة التي تركت أثرها على شكلها وجسمها، بشكل خدم الفيلم والشخصية إلى أقصى درجة. لا أعتقد أنه من الوارد نهائيا أن تخسر أوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن الدور، مع احترامي لباقي المنافسات. إيثان هوك يقدم أيضا أداء ممتازا جديدا مع صديق طفولته ريتشارد لينكلتر، استحق عنه الترشيح.


بمناسبة صداقتهما الطويلة، فمن الضروري هنا أن أذكر أن لينكلتر كتب في وصيته الشخصية، وعقده مع الشركة الانتاجية، أن استكمال اخراج الفيلم مهمة متروكة لـ إيثان هوك في حالة وفاته خلال الـ 12 عاما!



أحد التعليقات المنتشرة نقديا بخصوص الفيلم (لا يوجد شىء يجعل الفيلم مميز عن باقي الأفلام باستثناء طريقة تنفيذه بنفس الممثلين على مدار 12 عاما). شخصيا أجد هذه العبارة بنفس سخافة عبارة (لا يوجد شىء يجعل الطائرة مميزة عن السيارة والقطار باستثناء أنها تطير)!.. نعم هذا تحديدا ما يجعل كلاهما مميزا!.. وهو يكفي وحده بكل تأكيد! 


أمامنا فيلم فريد ومثير واستثنائي، لا يبحث عن قصص وأحداث غريبة ومثيرة واستثنائية في الحياة، لا نعرفها ولم نمر بها ليعرضها لنا. أمامنا فيلم فريد وعظيم، لأنه ببساطة يلمس بشاعرية القصة التي عايشها كل إنسان على سطح الأرض بلا استثناء (النمو). وتماما مثل مرحلة "الصبا" التي تجربها مرة واحدة في حياتك، قد يكون الفيلم أحد تجارب المشاهدة التي لن تعايشها ثانية نهائيا. 


إذا لم يكن هذا هو التميز والسحر بعينه، فما هو إذا تحديدا؟!



باختصار:
فيلمي المفضل في 2014. فيلم بسيط وشاعري وصادق بشكل غير عادي، عن أكثر الأحداث اعتيادية على الإطلاق في حياة البشر. استلقي من البداية باسترخاء مثل البطل، واترك (صِباك) يتسلل للسطح أثناء المشاهدة، وستعايش تجربة سينمائية فريدة بمعنى الكلمة.


للتواصل مع الكاتب