التوقيت السبت، 27 أبريل 2024
التوقيت 06:22 ص , بتوقيت القاهرة

كلينت إيستوود يقتنص اللحظة الفارقة في American Sniper

من الصعب جدًا، إن لم يكن من المستحيل تقريبًا، أن لا تتسلل السياسة إلى أي تحليلات سينمائية ستقرأها عن فيلم "القناص الأمريكي American Sniper"، خاصة تلك المكتوبة بأقلام أمريكية. ومن السهل معرفة السبب.


هذا عمل مقتبس عن كتاب السيرة الذاتية لشخصية حقيقية موضع جدل مستمر من حيث التصنيف كبطل أو سفاح. "كريس كايل" أشهر قناص في تاريخ الجيش الأمريكي، بإجمالي قتلى يتجاوز الـ 160 رسميا في حرب العراق (1). الحرب التي يراها الغالبية الأن كأحد أكبر خطايا السياسة الأمريكية (2). في فيلم تصادف أن يبدأ عرضه العام بعد أيام من جريمة "شارلي إبدو" بكل تداعياتها الإعلامية نحو قضايا الشرق الأوسط (3)، ومع نهاية عام ملتهب بشدة في المنطقة، يطرح خلافات سياسية مستمرة عن ضرورة التدخل العسكري، بفضل ممارسات داعش وأخواتها (4).


وعلى يد "كلينت إيستوود". النجم والمخرج اليميني المحافظ المشهور بمساندته للحزب الجمهوري الأمريكي (5). وبمعدل مشاركة مهم وغير متوقع في الأوسكار، وصل إلى 6 ترشيحات، كأفضل فيلم - ممثل - سيناريو مقتبس - مونتاج - مزج صوت - مونتاج صوت (6).


6 أسباب حاسمة أهمها التوقيت، جعلت الكل متحفزا لتشريح الفيلم على منضدة التشريح السياسي، وخلقت منه أيضا صاروخا غير متوقع في شباك التذاكر، بإجمالي إيرادات تجاوز الـ 90 مليون دولار في السوق الأمريكية، في أول 3 أيام عرض فقط، ليصبح أحد أنجح الافتتاحيات في تاريخ هوليوود عموما، وأنجح افتتاح في يناير بإجمالي يتجاوز ضعف أقرب المنافسين، والفيلم الأنجح على الإطلاق تجاريا وسط الأفلام الـ 8 المرشحة لأوسكار أفضل فيلم.


هذا فيلم يقتنص اللحظة الفارقة، حتى لو كان ذلك يعود للصدفة، أكثر منه إلى تخطيط حقيقي. 



لن أدعي أن ما تقرأه هنا سيكون الاستثناء. المقال ليس مجرد مراجعة نقدية سينمائية. وصراحة لا أرغب بكتابته كذلك. هذا مقال عن الفيلم سينمائيا، وعن السياسة التي أثارها الفيلم، وعن مخرج الفيلم أيضا. العناصر الـ 3 مترابطة، وهو ما جعلني أستبعد كتابة مقالين مُنفصلين. وعلى كلٍ في كل مرة ستقرأ فيها عن الفيلم من أي مصدر، تعشم فقط ألا تلوث السياسة التحليل السينمائي.


الفيلم نفسه لا يُضيّع الكثير من الوقت، ويبدأ بمشهد تشويقي ممتاز للقناص في قرار صعب. هل يقتل أم وطفل لتأمين رفاقه الجنود؟.. أم يتراجع عن التنفيذ؟.. افتتاحية مهمة، يليها قصة من طفولته التي يُلقنه فيها والده الحاد الطباع تصنيفه الثلاثي البسيط للبشر (حملان وديعة - ذئاب مفترسة - كلاب حراسة شجاعة تحرس الحملان الوديعة من الذئاب).


نحن لا نربي الحملان في هذه العائلة.
هكذا يُخبره أبوه، وهكذا يعرف مصيره. 



من هُنا سنعرف لاحقا لماذا انضم للجيش، ولماذا أصبح قناصا، وكيف أثرت مشاركته في حرب العراق على حياته الخاصة، في سيناريو جيد وموزون، أخرجه إيستوود البالغ من العمر  84  عامًا، في فيلمه رقم 37  ببراعة يحسد عليها، لدرجة جعلتني أتعجب أنه قدم قبل هذا الفيلم بـ 6 أشهر فقط لا غير، فيلم برداءة Jersey Boys وهو الفيلم الذي أوشكت بسببه وبسبب فيلم J. Edgar  قبله، أن أعتبر علاقة إيستوود بالأفلام العظيمة انتهت.


مشاهد الحروب والمواجهات حادة ومشوقة، لكن ليست بحدة وتشويق مُخرجة مثل كاثرين بيجلو في The Hurt Locker وZero Dark Thirty. ومشهد مواجهة القناصة الأخير بالأخص، لجأ فيه إيستوود للأسف لأحد أقدم ألاعيب مشاهد القناصة وأكثرها استهلاكا، لكن جودة هذه المشاهد وقيمتها تكمُن في أن كل منها بلا استثناء واحد تقريبا، يخدم مراحل تطور الشخصية، تمامًا كما تخدمها مشاهد البطل وسط عائلته ورفاقه في وطنه. إيستوود لا يلجأ أيضا للإبهار على طريقة ريدلي سكوت مثلا في Black Hawk Down. الشخصية الرئيسية هي في النهاية العنصر المُهيمن، وفي كل مرة تنتقل بنا الأحداث من العراق إلى أمريكا أو العكس، يوجد تصاعد درامي حقيقي مرتبط بالشخصية.  


الأداء الممتاز لـ برادلي كوبر، يزيد هذه النقطة قوةً. النجم المرح الذي عرفناه بفضل سلسلة The Hangover  الكوميدية، وبفضل أدوار نجح فيها في بسط الطابع المرح لجوانب أخرى في Silver Linings Playbook - American Hustle، يقتنص ترشيحه الثالث عن استحقاق في دور أعظم، شديد الاختلاف عما سبق. أداؤه يمنح للشخصية دراميًا مصداقيتها، حتى عندما يجبره السيناريو على النُطق بجمل رخيصة نسبيًا من وقتٍ لآخر.



آخر مرة زار فيها إيستوود محطة الأفلام الحربية، كانت عام 2006  بفيلمين مهمين مختلفين عن مواجهة واحدة أثناء الحرب العالمية الثانية ( Letters from Iwo Jima - Flags of Our Fathers). في أحدهما يطرح القصة من وجهة نظر المعسكر الأمريكي، وفي الثانية يطرح القصة من وجهة نظر المعسكر الياباني. وفي كلاهما لا يدين طرفًا أو جنودًا، بقدر ما يسرد أهوال وتأثير المواجهة بالنسبة لجنود الطرفين.


في American Sniper  لا يبالي السيناريو بالمعسكر الآخر، لأن هناك قصة واحدة تستحق الذكر. هذا فيلم صريح وبسيط وواضح، كما يطرح عنوانه مباشرة، وبوستراته الدعائية التي تضمنت مساحة كبيرة للعَلم الأمريكي، عن شخص يؤمن بتقسيمة (نحن - هم). شخص لا يعتبر خصومه العراقيين مجرد (أعداء) بل يصفهم صراحة بـ(الهمج المتوحشين). ورغم وجود شخصيات تتساءل أحيانا في بعض المشاهد عن تبريرات أو جدوى التدخل العسكري الأمريكي في العراق، لا يشغل السيناريو أو البطل نفسه كثيرًا بالإجابة. محور الفيلم هو ما تفعله هذه الحرب بالجندي الأمريكي عمومًا، وببطل الفيلم بالأخص.


الأعداء في الفيلم قتلة أطفال ومتوحشين، وهو ما سيستفز المشاهد العربي غالبا، ويسهل معه اتهام صناع الفيلم بالتعصب، لكن في النهاية انسى الفيلم وأصحابه، واسأل نفسك بشكل أكثر حدة، ألا يطابق بعض الموجود نفس مشاهد واقعنا، عندما يُلقى الأطفال من على الأسطح بسبب خلاف سياسي؟!.. أو يتم استخدام حزام ناسف على جسم طفلة عمرها 10 سنوات؟!.. وهى مشاهد حقيقية كنا سنصنفها كمبالغات إذا شاهدناها في فيلم أمريكي منذ 10 سنوات.



في هذه الصفة تحديدا احترمت الفيلم. وحده كلينت إيستوود ربما بتركيبته الشخصية والسياسية، القادر على التوغل دون خوف في رؤية شبه أحادية الجانب لحرب مُدانة إعلاميا منذ سنوات بالفعل. لا توجد هنا ادعاءات بالعمق أو محاولات مُصطنعة للهروب من أي اتهامات بالتعصب. اعتبر ذلك شجاعة فنية، أو وقاحة أمريكية، لكنّها في النهاية امتداد لمسيرته الفنية.


بعيدا عن حرب العراق بالأخص التي أدانها إيستوود بالمناسبة منذ بدايتها، ورفض بسببها المشاركة في حملات الدعاية لـ بوش في ثاني فترة، فهذا فيلم مع الحرب. وضد الحرب أيضا. وذكاؤه يكمُن في قدرته على التلاعب بالغالبية لفهم رسالته منهما بالشكل المماثل لقناعتهم أولا، والطعن في هذه القناعة نفسها للتفكير في الأخرى ثانيا. هذا فيلم لا يُجمل الحرب أو العنف أو الدم لكن يتعامل معهم كحتميات.


إيستوود كممثل كان شغوفًا دومًا بشخصية البطل الكتوم الذي يقوم بالأعمال العنيفة بدلا من الآخرين، وهي نفس شخصية البطل. وفي تاريخه كمخرج اهتمام واضح بقضية العنف. بالنسبة لإيستوود فإن الحقيقة الواحدة الحتمية مع وجودنا كبشر، هي العنف. وأن ممارسته ضرورية في بعض الحالات، حتى لو انتزع ذلك منا جزءا من الكبرياء أو احترام الذات أو القدرة على التواصل عاطفيا مع الآخرين للأبد. الرجل الطيب لابد أن يضغط على الزناد أحيانا وقت الأزمات. أو لنقلها بشكل أكثر حدةً (الرجل الأنبل قد يكون من ينتزع جزءا من روحه، ليضغط على الزناد وقت الأزمات).



هنا في هذه المنطقة يعود إيستوود من جديد لتألقه كمخرج، ويجد الخامة المرتبط بها فكريًا وفنيًا. ليست مصادفة أن أفضل أفلامه باستمرار تتعلق بنفس المحور. في أشهر أعماله  Unforgiven  أمامنا بطل يضطر للعودة للعنف بعد سنوات من المقاطعة. في A Perfect World أمامنا طفل يتعلم عن حتمية العنف شيئًا بفضل مجرم هارب. في Million Dollar Baby أمامنا امرأة فقيرة تلجأ لممارسة رياضة عنيفة كوسيلة لحل أزماتها وترقيها اجتماعيًا، وبطل يشاركها الرحلة رغم آلام ذكرياته مع العنف. في ثنائية الحرب العالمية الثانية، أمامنا معسكران يمثل كل منهما حضارة وثقافة مختلفة، وتأثير شبه واحد لمواجهة حربية حتمية على أفراد كلاهما.


لماذا نال الفيلم كل هذا الهجوم المُكثف الإعلامي، خصوصا من المعسكر اليساري؟.. الإجابة سهلة. لأنه ببساطة لم يعد مجرد فيلم عن حرب العراق. لم يعد أيضًا مجرد فيلم عن "كريس كايل". لم يعد مجرد فيلم جيد آخر عن قضية العنف في مسيرة طويلة لمخرجه الكبير الذي يمثل خصما لهذا المعكسر. نجاح الفيلم التجاري الأسطوري يبشر بعودة قناعات ثقافية يخاف منها العديد. قناعات ستترك تأثيرا واضحا على أحداث وقرارات السنوات القادمة سياسيًا. هذا فيلم عن أمريكا 2015 و 2016 وربما 2020 أيضا!.. وبينما يحلل البعض رقم الـ 90  مليون دولار إيرادات أول 3 أيام عرض، كمجرد اهتمام أمريكي زائد بالفيلم، أو نتيجة لحملة دعاية جيدة ارتبطت بظروف ما دولية خدمت الفيلم، رأى البعض الآخر في الرقم مؤشرات تصويتية وجماهيرية مرعبة عن سياسة ونتائج انتخابات السنوات القادمة!


هل احتاج الجمهور الأمريكي قناصا يحسم الأمور ويضغط على الزناد في الفيلم فقط، أم أن الحاجة لرجال الحسم ستمتد لتشمل قطاعات أخرى؟!.. سنترك الإجابة للزمن، لكن لنقل مبدئيا إنّ رأي مخرج الأفلام التسجيلية اليساري "مايكل مور" هنا، ووصفه العصبي للقناصة كمجرد أوغاد جبناء، عقب نجاح الفيلم، ليس الرأي السائد بلغة الأرقام. 


 





 


في أوائل الحرب العالمية الثانية، صنعت هوليوود فيلم Sergeant York  عام 1941 عن بطل أمريكي حقيقي في الحرب العالمية الأولى. الفيلم تصدر العام من حيث الإيرادات، ونال 11  ترشيح أوسكار، انتزع منهم فوز بـ (ممثل - مونتاج). في هذا الوقت كانت المشاعر القومية على أشدها، والحرب لا تزال عنصر شرف. الفيلم عن بطل شارك في حرب لم تكن مُدانة سياسيًا بأي حال، ولم يعقبها إحساس بتأنيب الضمير أو جلد الذات على المستوى الأمريكي.  


في آخر 40 سنة، لدينا طوفان عن أهوال الحروب، وإدانة سينمائية للسياسة الأمريكية في فيتنام وغيرها، وترسيخ عميق للإحساس بالذنب وجلد الذات على المستوى العام. ستجد هذا في كلاسيكيات نالت أيضا حصتها الجيدة من الجوائز أو النجاح الجماهيري، في أعمال أشهرها Apocalypse Now لـ كوبولا، أو Platoon  لـ أوليفر ستون، أو Full Metal Jacket لـ ستانلي كوبريك. في كل هذه الأفلام وغيرها، وجهت هوليوود طعنات إدانة للسياسة الأمريكية والجيش، وجعلت شرير الفيلم أحيانا بوضوح (ضابط أو قائد عسكري أمريكي).


أهمية American Sniper  كحدث سينمائي استثنائي يغير القواعد، ويستحق التسجيل في التاريخ، تكمن في أنه ورغم كونه عن (أكثر حرب مُدانة سياسيًا وإعلاميًا ارتبطت بتأنيب ضمير وجلد ذات)، يبدو أقرب إلى Sergeant York  منه إلى كل ما سبق!.. وإيراداته الجبارة تُغير كل شيء. جوائز The Hurt Locker  لم تشفع له جماهيريا، ليصبح أفشل فيلم فاز بـ (أوسكار أفضل فيلم) تجاريا. نجوم مثل دي كابريو وراسل كرو، لم تشفع لفيلم مثل Body of Lies جماهيريا. في وقت ما قريب لم يكن الجمهور الأمريكي مستعد لمشاهدة ومواجهة أي شيء عن حرب العراق، ويبدو أنه الآن لم يعد فقط مستعدا، بل ومتحمسا أيضا!



لن يعرف الجمهور نهائيا حقيقة مطلقة عن "كريس كايل". لدينا تحليلات عديدة تعتبره سفاحا، وأخرى تعتبره بطلا، وكتاب ألفه عن نفسه، وفيلم عن الكتاب الذي كتبه عن نفسه، لكن الحقيقة المُطلقة ستظل حبيسة في العراق لا يعرفها أحد. لكننا الآن نعرف جيدا مع نجاح الفيلم، أى قصة يريد الجمهور سماعها أكثر. الآن نعرف أيضا كيف ستدور عجلات هوليوود في السنوات القادمة.


هل منظومة (نحن - هم) يعود الفضل في نجاحها وتكريسها إلى كريس كايل وكتابه، أم إلى منطقتنا السعيدة التي لا تواجه وتعالج خطاياها، وتكتفي بالهجوم على الآخرين؟.. هذا سؤال أتركه للقارىء، لكن بصراحة، أعظم إعلان للفيلم وبطله، لم يكن من إنتاج شركة "وارنر"، بل كان فيديوهات من إنتاج منطقتنا السعيدة. المنطقة التي كالعادة سيهاجم أغلبها الفيلم، أكثر مما هاجموا داعش وأخواتها!.. المنطقة التي لا يزعجها حرق آلاف على يد بوكو حرام على أرض الواقع، أو مقتل آلاف هنا وهناك يوميا، لكن يزعجها بشدة مشهد دموي يقتل فيه شخص عربي طفلا، في فيلم هوليوودي! 



باختصار:
كلينت إيستوود يعود كمخرج ليقدم (أحد أفضل أعماله)، بثقة وحسم وحدة وتشويق، افتقدناها منه آخر سنوات، وبرادلي كوبر يقدم كممثل بكل تأكيد (أفضل أعماله)، في فيلم لن أصنفه نهائيا كالأجود وسط قائمة أفلام 2014  سينمائيا، لكن ببساطة أراه (الأهم) وبفارق أميال من حيث التأثير المستقبلي. القناص الأمريكي فيلم لا يصيب فقط هدفه، لكن يصيبه في التوقيت القاتل.


للتواصل مع الكاتب