التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 08:59 ص , بتوقيت القاهرة

إبراهيم أصلان الساحر

رغم أنه مقال.. وليس رواية أو قصة قصيرة إلا أنني لم أجد ما هو أكثر ملاءمة منه للدخول إلى عالم "إبراهيم أصلان".. ذلك العالم الرحب الجميل الذي يحوي دررًا من الإبداع الراقي، الذي يضعه، بحق، على قمة الأدب المصري المعاصر، يغرد في صفاءٍ وبهاءٍ وتفردٍ برحلة عطاء بالغة الغنى، رغم قلة الكم، عظيمة التأثير رغم بساطة السرد وخلوه من زخرفة البيان والبديع.


المقال بعنوان "لقاء وحيد مع العقاد".. يؤكد "أصلان" في بدايته أن "العقاد" ظل يُمثل بالنسبة له حالةً من حالات الرعب الذي لا ينتهي حتى بعد أن قرأ له بعضًا من أعماله الكبيرة دون أن يتحول إلى واحدٍ من قرائه المولعين.. ولا الكارهين. 


إنه مثل "العقاد" لم يحصل إلا على الابتدائية القديمة.. وفي صباه كان يروح ويجيء أمام الأهل والأصدقاء محملاً بمزيدٍ من الكتب، مما جعله معرضًا بين حين وآخر إلى سماع تلك العبارة المؤذية: "حضرته فاكر نفسه العقاد".


يقول "أصلان": "وهكذا تحول الرجل الذي مثل مع "طه حسين" جناحي الأسطورة التي هيّمنت على حياتنا الفكرية والروحية إلى هُولَة رهيبة لا فضيلة لها إلا الزِراية بي.. وكان أبي عندما تأتي سيرة "العقاد" يقول وهو قاعد على الكنبة يعبث بمسبحته "ياباي.. ده جبار".. مع أنه، يرحمه الله، لم يكن قد قرأ له حرفًا واحدًا.. ولكن ذلك زمن كان الكتاب يتحولون فيه إلى جمل من المعاني الكبيرة التي تكتسب حياتها المستقلة عن حياة أصحابها، والتي تشيع بين الناس وتؤثر فيهم أكثر مما تؤثر كتاباتهم ذاتها".


وجدير بالذكر أن نُشير هنا أن صفة "الجبار" بالذات قد التصقت "بالعقاد" بعد أن أطلقها عليه "سعد زغلول" في العشرينيات من القرن الماضي.


لم يكن "أصلان" في ذلك الوقت بطبيعة الحال قد رأى "العقاد"، حتى كان يوما من أيام (1963).. وبينما كان يسير في شارع "شريف" حتى فوجئ به في مواجهته مباشرةً.. فتسمر "أصلان" في مكانه.. وتأمله: "قامة مديدة.. وبدلة فاتحة مقلمة ونظارة وكوفية رفيعة طويلة.. ومثل كل أسطورة جليلة يمكن لها أن تدب على قدمين.. احتل هو الإطار المهيأ له في روحي احتلالاً كاملاً.. وعندما اقترب رأيت العينين الصافيتين".


استدار "أصلان" ومشى وراءه.. توقف "العقاد" أمام مكتبة صغيرة تعرض أدوات كتابية.. انحني وهو على مبعدة من عتبة المكتبة بسبب طوله وتأمل قلمًا.. فعل ذلك لفترة ثم مد يده إلى جيب سترته الداخلي وأخرج قلمه.. وانحنى أكثر وهو يمسكه بين يديه.. تأمله هو الآخر.. وعاد يتأمل القلم المعروض وينظر إلى القلم الذي بين أصابع العقاد ويندهش.. حيث لم يكن هناك وجه للشبه أو المقارنة لا في الحجم.. ولا في اللون.


يقول "أصلان": "هكذا وقفت ساكنًا أحدق في الأدوات المعروضة شأن أي زبون آخر.. وشعرت أنه أحس بي دون أن يلتفت.. حينئذ ألقى نظرة أخيرة بين القلمين وأعاد قلمه إلى جيبه.. وهو يعتدل ويبتعد أمامي متمهلاً على الرصيف العريض.. ويستدير هناك مع ناصية المبنى الكبير ويختفي.. ومضت شهور قليلة.. ومات".


يشي المقال بمنهج "أصلان" الفكري الذي ينحى إلى التوجه الفلسفي.. كما يعكس لغته الخاصة وأسلوبه المميز في القص والتعبير.


ففيما يتصل بالمحتوى الفلسفي، فمن الواضح أن إبداعات "أصلان" تتجاوز في أبعادها إلحاحات الواقع الاجتماعي المباشر إلى قضايا أكثر عمقًا واتساعًا ورحابة تتصل بالمصير الإنساني.. ومعني الوجود.. وجدوى الحياة.. ولغز الموت.. والإحساس الطاغي بالغربة.. وعدم الانتماء.


إن "عباس العقاد" الكاتب الجبار الذي كان يهز البرلمان هزاً في الثلاثينيات من القرن الماضي، ويصيح في عهد الملك "فؤاد" أن إرادة الشعب قادرة على سحق رأس الحكم إذا أرادت.. وهو صاحب المشروع الثقافي الكبير من خلال مؤلفاته الشهيرة وشعره المتجدد.. والمعارك الأدبية والسياسية الكبرى في الحياة الثقافية المصرية التي خاضها لسنوات طويلة، التي يُرهب فيها خصومه من السياسيين والمفكرين ونخبتهم.. ويستعصي أسلوبه المترفع على مدارك العامة وفهمهم.


هو نفسه "العقاد" الإنسان العادي الذي يسير في الطرفات ويستلفته شيء من الأشياء الصغيرة.. "قلم" يستوقفه وينحني من أجله ويتأمله طويلاً.. ثم لا يستهويه أو يتردد في شرائه.. وينصرف.. ثم يموت في النهاية كما يموت البشر.