التوقيت السبت، 27 أبريل 2024
التوقيت 11:09 ص , بتوقيت القاهرة

شركاء جريمة باريس

كعادة شعوب الشرق الأوسط في التنصل من خطاياها، ظهر فورا خلال الساعات التالية للهجمة الإرهابية على الصحيفة الفرنسية الساخرة، نغمات (هؤلاء لا يمثلون الإسلام الصحيح - يهود خلف التنفيذ - الإرهاب صناعة صهيونية) إلى آخر النغمات المعروفة المكررة المحفوظة، التي تظهر بشكل آلي مع كل حادث مماثل.


مربط الفرس في تحديد درجة اختلاف أغلب المسلمين عن مرتكبي الجريمة الإرهابية، يتلخص في إجابة سؤال بسيط يجب على كل مسلم إجابته بصراحة: هل توافق كمسلم على وجود رسوم كاريكاتيرية من نفس النوع، وتعتبر وجودها نوعا من أنواع حق إبداء الرأى المكفول، غير المستوجب لأي عقوبات، رغم اختلافك التام مع المضمون؟


إذا كانت الإجابة بـ(نعم) غير مشروطة، فأنت فعلا مختلف عن منفذي الحادث.. إذا كانت الإجابة (لا)، وترى ضرورة تطبيق عقوبة على رسامي هذا النوع من الكاريكاتير، وعلى أصحاب أي رأي مماثل، يتم تقديمه في وسائط أخرى (كتب - مقالات - أفلام.. إلخ)، وضرورة منع هذا النوع من الأعمال من العرض والنشر عامة، فأنت في الحقيقة إذا لا تختلف كثيرا عن مرتكبي الحادث، حتى لو اخترت لخصومك عقوبة أقل من الإعدام.


أزمة عالمنا الحديث، أن المسلم المعاصر مصمم على دولة تحقق تحديدا نفس أهداف وضوابط من يصفهم بالإرهابيين!.. كأن تطبيق عقوبة ما على أصحاب الصحيفة ورسامي الكاريكاتير، بعد حكم قاضي، وطبقا لنص قانوني معد سلفا، سيغير تصنيف الفعل نفسه وينقله من خانة (التصرف الإرهابي الهمجي) إلى خانة (الإجراء الإنساني المثالي المتحضر).



يحضرني الآن شهادة الشيخ الراحل الغزالي- وهو أحد المصنفين كشيخ معتدل بالمناسبة- في محاكمة قاتل فرج فودة، عندما صرح بأن فعل الاغتيال نفسه، حد من حدود الشريعة الواجب تطبيقها فعلا على الضحية، وأن عدم تطبيق الدولة للحد، كان دافع هذا الشاب الغيور على دينه لتطبيقه بنفسه، بالتالي طبقا للشيخ المعتدل، فإن جريمة الشاب الوحيدة (إن وُجدت)، ليست عملية قتل فرج فودة في حد ذاتها، بل هي ببساطة تجاوز الدولة في التنفيذ!


شرعنة وتقنين (العقوبات) ضد الآخر الذي لا يؤمن بنفس مقدساتك، لا تغير نهائيا من طبيعة الفعل نفسه وتصنيفه حضاريا، ولتعرف هذه الحقيقة البسيطة، تخيل فقط السيناريو الآتي:


دولة أوروبية قررت وضع قانون يمنع تماما أي ادعاءات بخصوص وجود تعديلات أو تزييفات في الإنجيل، أو وجود أنبياء بعد المسيح، ويعاقب أصحاب هذه الادعاءات، بالتالي أصبح أي مسلم يدعو إلى دينه، عرضة لعقوبة قانونية ما، وأصبح "المسجد" في حد ذاته، مؤسسة مرفوضة الوجود. هل سنعتبر هذه التصرفات مقبولة وحضارية؟!


بالنسبة لي لا يوجد فارق كبير بين الإرهابيين مرتكبي الحادث، حاملي الرشاشات والبنادق، في شوارع باريس، وبين واضعي قوانين "ازدراء الأديان"، من حاملي الشهادات العليا والأقلام، في مصر والدول الاسلامية.. الطرفان في النهاية قررا أن على الباقين كلهم، تقديس نفس مقدساتهم، ووضعا عقوبة لمن يخالف ذلك.. الطرفان في النهاية يمارسان الإرهاب.


الفارق الوحيد المهم ذكره، أن الطرف الأول غطى وجهه أثناء ارتكاب فعلته، لأنه يرتكب جريمته في دولة متحضرة، لا يرى أغلب أهلها أنه على صواب، والطرف الثاني يظهر أمامنا بكل زهو وفخر في البرامج، ويكتب المقالات والكتب، لأنه يرتكب جريمته في دول متخلفة انفصلت عن مسار الحضارة منذ قرون، واحترفت توريث قناعاتها المتخلفة جيلا بعد جيل.


ولأن الحضارة تطرد التخلف، لا أعتقد أن تعديل قوانين الهجرة والإقامة في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، تصرف غير عادل. من حق كل مجتمع أن يحمي أفراده، ويحافظ على مكتسباته، خصوصا إذا كان اندماجه مع (الآخر) لم يحقق في النهاية أي مكتسبات من أي نوع على الإطلاق، يمكن ذكرها مقابل هذة الأضرار، لأن (الآخر) أو نحن، لا نملك في الحقيقة أي مزايا للتصدير، ولو كان لدينا مزايا فعلا، لاستفدنا منها في مجتمعاتنا.


كلنا بشكل ما شركاء في جريمة باريس، بغض النظر أن الأدانة نفسها لن تلحق غالبا، إلا بمن أطلق الرصاص.


وللحديث بقية..


للتواصل مع الكاتب