التوقيت الخميس، 28 مارس 2024
التوقيت 03:21 م , بتوقيت القاهرة

سر النسوية في قصائد "شاعر المرأه" نزار قباني

نزار القبانى
نزار القبانى

مرت منذ أيام قليلة، ذكرى ميلاد الشاعر الكبير نزار قباني، حيث أنه من مواليد 21 مارس 1923 من أسرة عربية دمشقية عريقة. إذ يعتبر جده أبو خليل القباني من رائدي المسرح العربي، ورحل عن عالمنا فى نهاية شهر أبريل عام 1998، ودفن فى دمشق.

ولا شك أن حياة نزار قباني وسيرته الإبداعية الشعرية تحفل بالكثير من معاني النسوية والتي تفسر أيضا بالأنثوية، والتي هي تعني فيما تعنيه فلسفة أخلاقية تحركها دوافع متعلقة بقضايا المرأة.

ولد نزار قباني في بيت دمشقي عريق في واحدة من حارات دمشق القديمة، محاطا بكوكبة من قريباته النساء من أم وأخوات وخالات وعمات وجارات وبناتهن. ومن يعرف طبيعة البيت والأسرة الدمشقية وكيفية تربية الأطفال، يكتشف كيف يتلقى الصبيان الصغار حسيا في سنواتهم الأولى معاني الأنوثة التي تزخر بها هذه البيوت، ابتداء من اعتناء هؤلاء النسوة بعطورهن وملابسهن ومجوهراتهن، ومشاركة الصغار لهن في مشوارهن الأسبوعي إلى حمّام النساء وحفلاتهن الشهرية النسائية التقليدية المعروفة بـ"الاستقبال" حيث يجتمعن بأجمل حللهن ليغنين ويرقصن، إضافة إلى الاعتناء المفرط بأزواجهن وبيوتهن ونظافتها وطبخ أشهى أنواع الطعام بأصنافه الشامية العريقة وروائحها النفاذة، وحرصهن الشديد على تحويل بيوتهن إلى جنان صغيرة من أصص الزرع والزهور وأشجار الليمون والكباد والنارنج التي لا يخلو منها بيت دمشقي قديم.

تفاصيل كثيرة ومكثفة غذت ذاكرة طفولة نزار الحسيّة، اختصرها بمجموعها في وصيته الأخيرة بقوله: "دمشق الرحم، التي علمتني أبجدية الياسمين"، لتساهم بمجموعها في رسم عوالمه النفسية المشبعة بالعاطفة والحنان والجمال، وتشكيل لاوعيه الكامن برموز الأنوثة التي أحيط بها، وأدركها نزار مع بداية بلورة وعيه الشعري، واستغلها أحسن استغلال، وأعاد إنتاجها وترجمتها شعرا ورسمها بالكلمات، ليصير في المحصلة رجلا وشاعرا يحب النساء، بمعنى الآخر، ويحترمهن ويحب صحبتهن وصداقتهن، ويتعاطف معهن ويحرضهن على الحرية والحب، وبخاصة بعد انتحار شقيقته التي أجبرت على الزواج ممن لا تحب، فشكل انتحارها له منعطفا هاما في مسيرته الوجدانية ومناهضته لكل أشكال الظلم والعنف ضد المرأة، وكل أشكال الظلم ضد الإنسان بمعناه الأشمل؛ حتى أنه تعاطف مع حرية قطط داره الإناث فقال عنها: "القطط الشامية النظيفة الممتلئة صحة ونضارة، تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها وغرامها ورومانتيكيتها بحرية مطلقة، وحين تعود بعد هجر الحبيب ومعها قطيع من صغارها، ستجد من يستقبلها ويطعمها ويكفكف دموعها".

لم يهدر نزار ثروته الوافرة التي امتلكها من الخصوصيات الأنثوية، وأدهش العالم كيف سخّرها لتتألق بجوهر الشعر ودلالاته، فتحدث عن زجاجة العطر و"المكحلة" النحاسية والأمشاط العاجية، ووصف قمصان نوم النساء الشفيفة وملاءاتهن وسجادة الصلاة بإعجاب وانبهار متشابه. واستفاد لاحقا من رحلاته الدبلوماسية إلى أكبر عواصم العالم، فمزج المفردات الأنثوية الجمالية الجديدة التي تعرف عليها في تلك البلاد مع مفرداته الدمشقية ومنحها بعدا بورجوازيا، وبدا في شخصيته أكثر ميلا نحو المرأة المرفهة ـ السيدة ـ الأنيقة التي وصفها مأخوذا بجمالها من كعب حذائها الرفيع وجورب النايلون حتى تصفيفة شعرها الملكية، ليس لأنه كان ضد المرأة العاملة أو المتعبة أو الفقيرة، بل أراد أن يشدد على معاني رموز الأنوثة، هادفا إلى تحريضها لدى النساء بأنفسهن ولفت انتباههن إلى ما يمتلكن من هذه الرموز الثمينة بكونها عناصر قوة وسلاح نسائي يدعم جنسهن في نضالهن نحو الانعتاق.

فسارعت المراهقات والنساء العازبات والمتزوجات إلى قراءة شعره وحفظه وإخفاء قصائده الإشكالية، التي لا شك أنها ساهمت بتحريض أجيال متتالية نحو الحرية والجمال معا، وهو الأمر الذي أثار وأغضب مجتمعه الذكوري الدمشقي المحافظ بداية، فكتب مرة مشبها ما واجهه بمثل ما حدث لجده أبي خليل القباني في المسرح بقوله: "أنا أيضا ضربتني دمشق بالبندورة والبيض الفاسد، والذقون المحشوة بغبار التاريخ التي طلبت رأس أبي خليل، طلبت رأسي".

سارعت المراهقات والنساء العازبات والمتزوجات إلى قراءة شعر قباني وحفظه وإخفاء قصائده الإشكالية

لتنتقل عدوى قصائده الغزلية لاحقا إلى باقي المجتمعات المحافظة، وتحارب بالمثل وتمنع في أكثر من بلد عربي، شأنها شأن قصائده السياسية، والتي يمكن أن يقال إنهما شكلا معا ـ أي قصائد الغزل والسياسة ـ وحدة شعرية متجانسة، لانطلاقهما من منبع واحد يتوق للحرية والحياة والجمال، ضد القهر والتخلف والاستبداد بكافة أشكاله.

ليس مستغربا أن تكون مبيعات دواوين نزار قباني هي الأعلى حتى اليوم، فهو ما زال بجدارة "رئيس جمهورية الشعر" كما وصف يوما، وهو بجدارة مماثلة نصير المرأة الدائم وعاشقها.