التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 03:00 م , بتوقيت القاهرة

مصر للطيران.. طير إنت

مهما غبت عن مصر للطيران، لا بد أن أعود إليها بحكاية تذكرني بها. ونعم، كما توقعتم. دائما حكايات سيئة.


كتبت مرة قبل سنتين عن رحلة من الغردقة إلى القاهرة عاد بعض المسافرين فيها وقوفا، بالتحديد راكبان، في واقعة هي الوحيدة التي رأيتها في عمري كله في رحلة طيران. وبعض الناس، حتى الآن، لا يصدقونني حين أروي لهم الواقعة، ويعتقدون أنني أبالغ.


أمس عدت من رحلة من شرم الشيخ، باب كابينة القيادة فيها خرب، لكن هذه المرة، على عكس المرة السابقة، لدي دليل مصور، كل ما أطلب منكم الثقة فيه، هو أن هذه الصورة التقطت ونحو في الجو فعلا، ستلاحظون خلو الجزء الذي يفصل بين موضع التقاط الصورة وبين الكابينة من أي حركة، كما يحدث أثناء الإقلاع. كما أن الضوء القادم من واجة الطائرة جعل التفاصيل أقل وضوحا مما لو صورتها وأنا قادر على القيام من المقعد في زاوية أفضل.



رقم الرحلة 308، وميعاد إقلاعها الثالثة والربع.


فتح باب الكابينة لم يحدث مرة واحدة لخطأ في إغلاقه، بل كان مستعصيا على الغلق، كلما أغلقوه انفتح وحده. هذا إشارة إلى صيانة منقوصة في الطائرة، اليوم تظهر في شيء يسد عين الشمس، ومهم جدا جدا جدا أمنيا، كباب الكابينة، وغدا يظهر في شيء خفي، كارثي، يزهق حياة مواطنين.


وأرجوكم، قبل أن تزهق حياة مواطنين ثم يتعالى النواح، تعالوا نفكر بجدية وإجرائية ما السبب خلف هذا التسيب الإداري الموجود في مصر للطيران على جميع مستوياتها، والذي سأضرب عليه مثالا شخصيا آخر - في نفس السفرية، ولكن في رحلة الذهاب.


نسيت ابنتي على مقعدها في الطائرة سماعة رأس قيمة، اشتريتها لها في عيد ميلادها، كانت تسد بها أذنيها من طنين الطائرة ونامت فوقعت عن رأسها، ولم تلحظ ذلك إلا بعد أن وصلنا إلى الفندق. اتصلت بالرقم الخاص باستفسارات مصر للطيران 1717 فرد علي شاب اسمه عمرو، أعطاني رقما للاتصال عليه، خاصا بهذه التساؤلات، حاولت الاتصال عدة مرات لكن الرقم لا يرد أبدا. عدت إلى عمرو. أعطاني رقما آخر، يبدأ بـ 0900 هذه المرة. لكن الرقم غير مسجل في الخدمة. دار بيننا حوار طويل، ملخصه جملتان، هو يقول أنا مجرد موظف أنقل إليك الأرقام التي أملكها، وأنا أقول: طيب أنا كمواطن أعمل إيه، ولو لم أكن مواطنا مصريا، لو كنت مجرد سائح أو سائحة لا أعرف أحدا في البلد كيف يكون شعوري، والأرقام - بداية - لا ترد.


طبعا بعد جولة مع "مكتب أمن مصر للطيران" في مطار شرم الشيخ (اللي قبل الإكس راي كما يقولون لك في المطار)، ومكتب مواز في مطار القاهرة، اكتشفت أن الرقم الذي يبدأ بـ 0900، أملي عليّ بطريقة خاطئة. لا. لم أسمعه خطأ، بل الموظف يعتمد على ذاكرته ولا يراجعه. الرقم الذي أعطاني إياه، وراجعته معه في كل مرة أعود للاتصال به، ينطق هكذا "زيرو تسعمية خمس سبعات"، بينما الرقم الذي كان يجب أن يعطيني إياه عبارة عن سبعة واحدة وأربع أصفار بعدها. لقد كونت ذاكرته صيغة بديلة للرقم واستراحت إليها.


اللي بيروح ولو داخل الطائرة في مصر للطيران لا يعود. هذه فضيحة في الحقيقة. تدل، كما قلت سابقا، على تسيب إداري يعيدنا إلى موضوعنا.


أذكر تصريحا لرئيس سابق لمصر للطيران قال فيه إن لديه 33 ألف عامل على حساب الشركة، بينما لا يحتاج في إدارتها إلا إلى 10 آلاف فقط. لا أدري ما هي الأرقام الحالية، لكن أتوقع ألا تختلف كثيرا. المهم، على رغم كل هذه الوفرة في العمالة، فإن الشركة لا تجد مشرفين يضمنون صيانة الطائرة بشكل جيد، ولا صيانة مفقودات الركاب. نفسرها إزاي دي؟!


زيادة عدد الموظفين يعني انحسار "ميزانية الإنتاج"، لأن قطاع المرتبات يلتهمها. صورة مصغرة للفشل الاقتصادي في عموم مصر المحروسة. فشل واضح باد للعيان لكننا مستمرون فيه.


طيب ليه؟ هو فيه حد عايز يفشل؟! لا، لكن فيه جهات من مصلحته استمرار سياسات فشل.


الدولة التي تدار بسياسات مركزية من مصلحتها الاستمرار فيه حتى تسد أفواه مواطنين عن الشكوى، وتضمن ولاء سياسيا. وتيارات سياسية - قال إيه معارضة - تغذي الاستمرار فيه تحت دعوى الدفاع عن حقوق العمال. وكأن المواطنين المستخدمين للخدمات نفسها ليس لهم حقوق.


قبل إثارة أي تعليق طبقي من نوعية إن اللي بيستخدموا الطيران الداخلي دول ناس معاها فلوس فيتحرقوا، أحب أن أذكركم أننا جميعا ننحرق في القطارات. ما يحدث في قطاع السكة الحديد ليس أكثر من صورة مرآة، بأبعاد مختلفة، لما يحدث في مصر للطيران. الفارق أن مصر للطيران تغطي خسائرها بـ"سرقة علنية" من جيوب المواطنين القادرين على استخدام الطيران الداخلي، وذلك بأسعار تذاكر خيالية إن قورنت بأسعار التذاكر في العالم، أما "سكك حديد مصر" فتغطيها بتكديس للمواطنين بشكل غير آدمي، لجمع أكبر قدر من التذاكر، أو بإهمال للصيانة بشكل غير آدمي. وفي كل الأحوال المواطنون المستخدمون للخدمة هم الخاسرون، وفي كل الأحوال الخدمة السيئة عنوان الموقف.


النقطة الثانية مبنية على الأولى، المركزية في الإدارة قرين للاحتكارية في الاقتصاد. ما هي السلطات هتتركز في إيد السلطة المركزية إزاي؟ بالاقتصاد. دي عايزة مفهومية!


في المثالين، لو كان هناك تنافس، لانفض المواطنون عن الشركة الفاشلة، ولاختاروا شركة أفضل. ولاضطرت الشركات إلى تجويد منتجها لكي يتنافس ويحصل على ثقة المواطنين.


بعضهم يقول: لكن الشركات الخاصة ستكون غالية السعر. في المثل الذي ضربته سابقا أكبر دليل على أن "الرخص" المقدم من شركات احتكار الدولة ليس حقيقيا. حين ثبتنا عدد الكراسي في مصر للطيران، حصلنا على تذاكر بقيمة أغلى بكثير من قيم تذاكر الطيران في شركات أفضل. في أوروبا أستطيع أن أسافر من لندن إلى روما بما قيمته 340 جنيها مصريا في المتوسط. هذا أرخص كثيرا جدا من قيمة تذكرة مصر للطيران القاهرة شرم الشيخ. ولو احترمنا الحجز بالمقاعد في السكك الحديدية، وألزمناها بأن يكون عدد الركاب موازيا لعدد المقاعد، وألزمناهم بصيانة الحمامات، لوصلت أسعار التذاكر إلى أرقام خرافية أيضا. كل الموضوع أن السكة الحديد تحصل ما تريد بطريقة عكسية. إما بالتكديس أو بطرح تكلفة الصيانة من مدفوعاتها. أو بالالتفاف على موضوع التذاكر وإلزامك ـ إن أردت أن تسافري من أسيوط إلى القاهرة مثلا - بشراء تذكرتين، واحدة من أسيوط إلى بني سويف، والأخرى من بني سويف إلى القاهرة. وبالتالي تحصل منك ثمنا أعلى من المعلن. وفي كلا القطاعين الخدمة سيئة.


الكفاءة الإدارية لم تعد في العالم كله محلا للجدال الأيديولوجي. وأنا أقصد هنا سياسات تخلق آليات للكفاءة الإدارية. لا أقصد - وحياة أبوكي يا شيخة - خطبا ومواعظ عن الكفاءة الإدارية، وعن ضرورة مكافحة الفساد. كما لا أقصد "جولات مفاجئة للمسؤولين"، ويا سلام لو متخفيين، وكل هذا الفلكلور القديم، الماسخ، الذي لا يستحق حبر طباعته على ورق، ولا عناء طباعته على كمبيوتر.


سلوك الاحتكار الاقتصادي أساس احتكار أشياء أخرى بدءا من الحكم والإدارة المحلية، وصولا إلى احتكار الخطاب الديني. وهو سلوك أثبت فشله بما لا يدع مجالا للشك. الأذكياء يستفيدون من الفشل بتجنب الوقوع في الأخطاء. أما الأغبياء - على مقولة منسوبة إلى أينشتين - فيكررون نفس الخطوات بينما ينتظرون نتائج مختلفة.


زهقنا! ارحمونا!