التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 04:49 م , بتوقيت القاهرة

الاستثمارية مقابل الاشتراكية - هل رأيتها هكذا من قبل؟!

تخدعين نفسك خدعة رخيصة جدا إن بحثت عن تعريف لليسار من ملاحظة سلوك أحزاب اليسار الأوروبي. وذلك لأكثر من سبب:


أحزاب اليسار في أوروبا الغربية الديمقراطية نشأت في ظل نظام استثماري (رأسمالي) وبالتالي فدعائم النظام موجودة من قبل. وبالتالي اضطرت إلى معايشة هذا النظام والالتزام بدعائمه من حريات التملك والتعبير إلخ. 


هناك دول أوروبية لم تتبع هذا المسار، وتولى اشتراكيون بناء نظمها على الأسس التي يرغبون، في حقبة من الزمن. تستطيعين أن تقارني لتري الفارق. هذه الدول تعرف باسم دول الكتلة الشرقية، التي انهارت بسقوط الاتحاد السوفيتي عام 1989، وتبنت كثير من مجتمعاتها دعائم نظم الحكم في أوروبا الغربية كما أرساه الاستثماريون من قبل.


نشأة هذه الأحزاب اليسارية في ظل النظام الاستثماري عدل سلوكها، وساهم في النظام أيضا. في الأخير المجتمعات تبنى بعقائد أفرادها وسلوكهم. ولذلك فإن الدول الأوروبية المبنية على فكر استثماري (رأسمالي) تأثرت هي الأخرى بالأحزاب الاشتراكية، على نحو لم تتأثر به أمريكا مثلا. أوروبا أقدم، ورث أهلها عادات تتعلق بحقب تاريخية سابقة مرت بها بيئاتهم. أما أمريكا فأحدث ونصيب الفكر الحداثي فيها أكبر من الموروث. في أوروبا قد يوصف سياسيون بأنهم اشتراكيون على سبيل مجرد التوصيف. نفس الوصف في أمريكا سيعتبر محاولة للتشهير السياسي. للاشتراكية اسم سيئ جدا في أمريكا. 


ماذا عن الأحزاب الاشتراكية في مصر؟


مشكلة مصر أن دعائم النظام السياسي لم تستقر على أسس حداثية. التجربة القصيرة سعيا إلى ذلك أجهضها انقلاب 1952، مستعيرا تجارب تشبه تجارب الكتلة الشرقية. دولة تسيطر على وسائل الإنتاج. وتؤمم الممتلكات. وتتعامل في السياسة الخارجية ليس على أنها نظام دولة، بل على أنها معارضة (عالمية). 


لاحظي هذا المعنى. مجموعة معارضة لنظام سياسي ما. تزيحه عن الحكم وتصل هي إليه. هذه المجموعة اكتسبت فخرها من معارضة سلطة الحكم. وطالما تغنت بفكرة "معارضة السلطة" في حد ذاتها. ثم صارت الآن سلطة. ماذا تفعل؟


نعم. تحول نفسها إلى معارضة للنظام العالمي. هذا خارجيا. لكي تظل على فخرها القديم. أما داخليا، فلن تسمح لأحد أن يزايد على وطنيتها كما زايدت هي على وطنية النظام. هذا ما حدث في كل دولة، كل دولة، وصل فيها اشتراكيون إلى الحكم قبل أن تتأسس دعائم النظام على أسس استثمارية (رأسمالية). 


لا تعتقدي أن سلوك النشطاء الاشتراكيين على صفحات فيسبوك وتويتر وفي المجال العام معزول عن اعتقادهم السياسي. كثير من هؤلاء الشتامين في حياتهم الطبيعية أناس عاديون، وبعضهم مهذبون. إنما هناك عاملان يجعلانهم هكذا بالضرورة. أولهما أن الفكر الاشتراكي فكر جمعي، ما قبل حداثي، نابع من مجتمعات زراعية ومن هوامش المدن. القيم العائلية فيه قوية. يعجب الناس ظاهرها كفكرة المشاركة والتكافل، لكنهم لا يلتفتون إلى أن هذا يأتي مع سائر البنية العائلية الأخرى. رأس عائلة (نظام) يحظى بالتوقير المطلق، حوله بطانة يستشيرهم لكن رأيهم غير ملزم. هذه العائلة (النظام - الجماعة) تحركها دوافع العصبة في مواجهة الآخرين، والحسم بالعضلات، والذكورية. وثانيهما أن الاشتراكية تعتمد في دعايتها السياسية على جذب الجمهور بشعارات قيمية. 


القيمة بطبيعتها نسبية. القيمة المحتفى بها في مجتمع كمصر تختلف عن القيم المحتفى بها في مجتمع كبريطانيا، وهكذا. بل - وهذا الأهم والأدعى للانتباه - حتى لو اتفق مجتمعان على الاحتفاء بقيمة أو ذمها، فإن درجة الاحتفاء والذم تختلف.  


الاشتراكية - على عادة المجتمعات القديمة - تعتمد على تحويل النسبي إلى مطلق. تتحدث مثلا عن "العدالة الاجتماعية". وهي أمر نسبي تماما، طرق الوصول إليه تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن نظرة سياسة إلى أخرى. لكن النشطاء الاشتراكيين يحولونها إلى قيمة مطلقة. يحولون الإجراءات السياسية التي يؤمنون بأنها السبيل لتحقيقها إلى قيمة عليا في حد ذاتها. وبالتالي يشعرون دائما أنهم يملكون الحق. وأن من يخالفهم لا بد يخالفهم لسوء طوية وضلال. إما طمعا في سلطة أو لأنه "عر." أو أو. لفظ يمثل ما نتحدث عنه وعنهم هنا أفضل تمثيل.


هو لفظ متعلق بقيم العائلة، إذ إنه مشتق من التفريط في "الأمانة" العائلية (النساء). يحبون جدا التلميح إلى شيء "شخصي" "فضائحي" في من يخالفونهم. هذه الفضائحية - والخوف المبالغ فيه أيضا من الفضيحة - جزء من القيم العائلية. التي تحمل الفرد مسؤولية خزي العائلة. 


الاشتراكية تنتمي إلى عالم الرياضيات. عالم مغلق القيم العددية. لو كان عندنا ألف فدان فلا بد أن نقسمهم على الأفراد لكي نحقق العدالة. وبالتالي سيفوز من يحمل القيم القديمة من كثرة العزوة. انظري إلى الحلول التي يقترحونها للاستفادة من الإعانات. لماذا لا نصلح بها العشوائيات؟ نعم! وماذا بعد. ولو أردنا أن نزيد فلا بد أن نتوسع أفقيا (سيظلون يتحدثون عن الموضوع حتى لو لم يكن لديهم ماء لري هذا التوسع، عقولهم لا تعمل بهذا الشكل). إنه اقتصاد "حلة المحشي".


أما الاستثمارية (الرأسمالية) فتنتمي إلى عالم الفيزياء. عالم التعرف بالعلم على طبيعة المادة لكي نضخم الانتفاع منها، لكي ننميها. نفس طريقة التفكير التي أنتجت الانشطار النووي، والتي أنتجت ناطحات السحاب (تحويل جزء صغير من الأرض إلى محل لسكنى عدد كبير من البشر بالامتداد الرأسي). قبل أن نفكر في التوسع الأفقي الزراعي مثلا، لماذا لا "نستثمر" ما لدينا ونعظم إنتاجية الفدان، ونستخدم الصوب، ونضيف مصانع إنتاجية صغيرة قريبة تنتج الألبان وتعلبه وتنقله. وحين يكون لدينا فائض ربح نتوسع به. تحقيق هذا يحتاج إلى استثمار، إلى تعاون مع غرباء، إلى تفكير مديني. القيم العائلية تخوفك منه.


الخيار بين الاستثمارية (التي نترجمها الرأسمالية) وبين الاشتراكية خيار ثقافي وحضاري، ومعرفي، وزمني. وليس خيارا سياسيا بين أشباه. 


مصر أمامها سبيلان. إما دولة تريد أن تتحكم في كل شيء، وأن تملك وسائل الإنتاج وبالتالي أعناق الناخبين، هذا ما يدفعنا إليه الإرث الاشتراكي. وإما دولة تفهم هذا العصر، تفهم العلاقة بين معدل تزايد السكان وبين الإنتاج. وتفهم أن المجتمعات عبارة عن أفراد لكل منهم ما يميزها ويميزه، وبالتالي تفتح الأبواب لحريات الأفراد، بدءا وليس انتهاء بحرية تملك وسائل إنتاج على كافة المستويات، وحرية التعبير عن الأفكار، لأنها من تمنحنا سبل التطور الإبداعية. التشجيع على التملك، من أول قروض البنوك العقارية إلى تملك وسائل الإنتاج، يتناسب طرديا مع السلوك السياسي والاقتصادي المسؤول، لأن الخيار السياسي سيكون له مردود على الفرد. فكري في هذا التعبير property?-?owning democracy.