التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 09:43 ص , بتوقيت القاهرة

ما معنى الإصلاح الديني؟ (1)

لعل اللحظة الأكثر محورية في تاريخنا الفكري الحديث كله، هي لحظة مباغتة نابليون للأمة بمدافعه؛ تلك المدافع التي لم تطلق زخات البارود في ساحات النزال العسكري فحسب، بل أطلقت صيحات الإنذار والتنبيه صوب العقول في ساحات الفكر، صوب آذان أمة كانت قد غضت في سبات عميق؛ امتد لسبعة قرون، فاستيقظت فجأة لتكتشف أنها متخلفة عن قطار الحداثة الذي ركبه الرجل الأوروبي وسبقها بقرون أربعة على الأقل.


فعند هذه اللحظة النابليونية بالذات كان سؤال الإصلاح الديني قد بدأ يتخلق كنطفة في عقول من لقبوا فيما بعد بالنهضويين؛ كنتيجة لرؤية التفاوت الهائل بين حال الأوربيين وحال المسلمين. وقد عجلت آلية الابتعاث الخارجي التي لجأ إليها محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، من ضرورة إيجاد إجابة للسؤال الذي تمحورت جل صيغه حول مسألة قابلية الإسلام للتحديث أو مدى توافقه مع قيم ومنجزات الحداثة؛ التي لم يكن من الصعوبة على المبتعثين بمكان أن يكتشفوا أنها السر وراء تقدمهم وتخلفنا.


إذ ذاك؛ ظهر دعوات الإصلاح الديني - في شكلها التوفيقي - على يد علمها الأشهر الشيخ محمد عبده رحمه الله. وكرد فعل على تلك الدعوة الراغبة في التوفيق بين الإسلام والحداثة، بعد إعادة قراءة تراثه، ظهر تيار التجديد الأصولي الذي يزعم أن الأوروبيين ما أتوا بشيء قط إلا وله نظير في تراثنا كما قرأه ومارسه السلف. ولعل أشهر مثال يمكن أن نضربه في هذا الصدد هو ادعاؤهم الزائف أن الديمقراطية - وهي آلية أوروبية حداثية بامتياز- ما هي إلا صورة من صور الشورى التي عرفها عرب القرن السابع الميلادي.


من هذه المقدمة المقتضبة للغابة نستطيع أن نخرج بنتيجتين لا غنى عنهما في الإجابة على سؤال المقال:

(1) أن نفصل فصلاً بيناً بين تيارين متصارعين في عالمنا الإسلامي. الأول: التيار الداعي لإصلاح الإسلام كي يتوافق وقيم العصر الحداثية. الثاني: تيار التجديد بكل تنويعاته السلفية والإخوانية والحركية، بما تحمله كلمة التجديد- بحسب قاموس الفقه الإسلامي- من معاني كلها يتعلق بإزالة ما علق بإسلام السلف من آثار الدهر والخلف. إنها دعوة تشهر منذ اللحظة الأولى عدائها للحداثة ومنجزاتها، وتقول بعدم الحاجة إليها البتة، دعوة ترى أن التجديد يعني إعادة إحياء الماضي، وأقصي ما يمكن أن تبتعد به عن الماضي هو "الاجتهاد"، بضوابط الماضي أيضًا. 


(2)  قضية الإصلاح الديني فضلاً عن أنها منذ أن طفت على السطح، ردة فعل على الصدمة الحضارية، فهي في جوهرها وفلسفتها الأعمق تتمحور حول منجزات الحداثة، وكيفية إيجاد السبل لغرس قيمها في مجتمع تعتنق الإسلام أغلبيته الساحقة، وترى فيه لا دين فحسب، بل منهج حياة. وهي قضية سابقة على زمن السيسي بقرن من الزمان، وليس إلحاحه على ضرورة إنجازها سوى إقرار منه- ومنا -  بأن ما بذل لأجلها من جهد لم يكن- لأسباب ليست محل نقاشنا الآن -  لا بالكم ولا بالعمق الكافي، على الأقل في مصر.


فما الذي انتجته الحداثة واستدعي ضرورة الإصلاح الديني؟ بكلمات أخرى؛ ما هي المحاور التي يجب- في نظر كاتب السطور- أن يرتكز حولها مشروع الإصلاح؟


لا أخفي الأصدقاء سراً أنني قد ترددت طويلاً قبل الإقدام على نشر هذا المقال، الذي كتبت مسودته منذ فترة طويلة، وذلك مرده إيماني العميق بأن إجابة سؤال الإصلاح تحتاج إلى جهود فريق كامل من الباحثين. فالمسألة ليست "خناقة" كما يظن البعض، وليست فتاوى جديدة مضحكة يتم إطلاقها كل فترة كما يظن البعض الآخر. إنها أولاً تأصيل لمشكلة بعد الاعتراف بوجودها، ومن ثم تفكيك عناصرها. وثانياً: وصفة ناجعة لعلاجها، وثالثاً: عمل دؤوب على الإنجاز أو التطبيق.


إذ قد يستحيل أن نصلح قبل أن نحدد ما يجب إصلاحه، ويستحيل أن نعالج قبل أن نحدد موضع المرض، ويستحيل أن نصف الدواء قبل أن نعلم أين موطن الداء. وقد قررت أخيرًا نشر المقال مختصرًا ومركزًا، في حلقتين، حول غايات الإصلاح لا آلياته، حين طالت مطالعتي لما يقال في الفضائيات ويكتب في الصحف المصرية دون أن أجد من يتطرق للقضية خارج دائرة الكلام المرسل، فباستثناء ما يكتبه الدكتور على مبروك على صفحات الأهرام، لم أقرأ لأحدهم محاولة يتيمة في هذا الصدد، لكن مشكلة الدكتور- رغم عمق كتاباته ورصانتها الشديدة - أنه لم يفارق منبر المثقفين بعد، وتظل لغته الأكاديمية التي يغلب عليها مفردات الفلسفة بحكم اشتغاله في حقلها عائق نحو وصوله إلى القارئ العادي. ولعله يجد في هذا التنويه، من أحد الشغوفين بما يكتب، ما يدفعه لإعادة النظر في تلك الجزئية.


يرى كاتب السطور أن نقطة البداية والانطلاق نحو تفعيل مشروع الإصلاح الديني لابد أن تبدأ من الاعتراف بأن إنسان ما قبل الحداثة ليس كإنسان ما بعدها. الأول وقف عاجزًا أمام الكون ومفسراً لظواهر الطبيعة تفسيرًا سحريًا أسطوريًا، ثم لاحقاً تفسيرًا دينيًا. أما الثاني، فلم يعد الدين بالنسبة له مفسرًا للكون وظواهره، لكن العلم أضحى  يقوم بتلك المهمة المعقدة، بل وأمسى الدين نفسه ظاهرة تحتاج إلى تفسير، بمعنى أن ثمة قوانين تحكم تشكله وثمة عوامل إنسانية تفاعلت عبر التاريخ فجعلته بالصورة التي هو عليها الآن.


إنسان ما بعد الحداثة لا يفسر التاريخ تفسيرات غيبية، بل يعزوه إلى قوانين وعوامل موضوعية؛ اقتصادية وسياسية واجتماعية. وهي نظرة أفضت بشكل تلقائي إلي اعتبار الحاضر نتيجة مباشرة لمعطيات الماضي، ومن ثم أصبح المستقبل نتاجا للحاضر، بما يعني أن الإنسان الحديث لم يعد مهموما بتمثل قيم السلف ومحاولة اجترار نماذجهم، بل صار تحسين شروط الحاضر من أجل مستقبل أفضل هو أكبر همه ومبعث غمه.


هذا التغير الجذري في مفاهيم إنسان ما بعد الحداثة، كان له بالغ الأثر على الدين. أولاً: جعل الدين في نظره موضوع للمعرفة وليس آلية لها. ثانيًا: وبناء علي أولاً، أصبحت دراسة الدين تتم من خلال مناهج علمية (حقيقية) لها قواعد صارمة تنطبق على كل الأديان. ثالثاً: توجب إعادة قراءة التراث الديني قراءة علمية تزيح كل طابع أسطوري غيبي عن أحداث التاريخ، لصالح نظرة موضوعية، وحتي نصوص الدين المقدسة، لم تفلت من تلك النظرة الصارمة، إذ توجب النظر إليها كونها نصوص تاريخية، ثمة عوامل ساهمت في تشكلها وتبلورها كي تأخذ طابعها الآني. وهو أمر يلغي بشكل كامل فكرة تعالي الدين، أي دين، عن معطيات الزمان والمكان، إلا أنه لا ينفي ألوهية النص، ولعل مقولة الدكتور نصر حامد أبو زيد: "ألوهية مصدر النص لا تنفي واقعية محتواه، ولا تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر".


خير شاهد  يمكن أن نستدل به على تلك الجزئية. الأمر الثاني الذي يجب التنبيه عليه أن تلك النظرة الحداثية لا تعني تنكر كامل لتراث الدين، أو محاولة لنسفه كما يردد البعض بطريقة صبيانية، بل تعني الاعتراف بحقيقة مفادها أن هذا التراث لم يعد قادر على الوفاء بمتطلبات إنسان الحاضر، وإن كان قد أوفى بتلك المتطلبات في زمان الفقهاء الأوائل.


إنسان ما بعد الحداثة لا يقف عاجز أمام مظاهر الكون، بل يحاول فهمهما والسيطرة عليها من أجل سعادته؛ ذلك لأن منتجات الحداثة وغايتها تتمحور حول سعادة الإنسان، حول ذاته، بما يعني أن قيمة الإنسان ما قبل الحداثة تختلف بشكل كامل عن ما بعدها؛ من هنا جاءت فكرة حقوق الإنسان وحريته، وهي محاور أخرى يجب أن تكون في القلب من مسألة الإصلاح الديني، لذا؛ فلم يكن من سبيل المصادفة أن نجد مسألة الردة، بحسب ما صاغها الفقهاء، قد شغلت مساحات كبيرة في كتب كل المهتمين بالإصلاح، إذ إنها تقف على النقيض تمامًا من قيم الحداثة وما رسخته من مبادئ لا حول حرية الاعتقاد فحسب، بل حول حرية الإنسان في تغيير معتقده، وممارسة طقوسه في العلن، بل والتبشير بها. وكذا حرية البحث والتساؤل، وحرية الفكر والإبداع. إنها فكرة تعني ضمن ما تعني أنه لا وجود لخطوط حمراء، أو كما قال كانط: لا أعرف إلا نوعا واحدا من الحرية؛ حرية العقل! فللعقل، من منظور حداثي، مطلق الحرية، حتى حرية الجموح! وهو أمر لا نحتاج معه لأن نؤكد أن مسألة الإصلاح تعني تبديل الوضع الفقهي الراهن، بتقديم العقل على النقل، أياً كانت قوة هذا النقل ومدي الإجماع حوله.


إن مسألة الإجماع بالذات، التي هي الأصل الثالث من أصول الفقه الإسلامي، بحسب ما أطر له الشافعي، بعد القرآن والسنة لابد وأنها ستكون موضع شد وجذب بين أدعياء الدين التقليدي وسدنته، وبين دعاه الإصلاح؛ لأنها مسألة في فلسفتها الأعمق تناقض بشكل جذري فلسفة الحداثة؛ فبينما يسحق الإجماع كل رأي جديد أو مخالف تلوح بوادره في الأفق، حتى لو حجته أقوى وأدلته أوضح، يمنح الفكر الحديث كل مؤمن حرية التأويل والاجتهاد والفهم. إنها فلسفة تقوم علي إزالة العوائق بين المؤمن وما يؤمن به، إذ لا يحتاج معها أن يجعل بينه وبين النص الوسيط، ولا تعود معها لمقولة: قال الله. التي لا يخلو منها كتاب مفسر محل من الإعراب، لتحل محلها مقولة قال: الطبري أو قال ابن كثير.  وغني عن البيان أنه والحال هذه سنكون في أمس الحاجة لإعادة تفسير النصوص، وهي المسألة لن تمر إلا عبر نقد وأحيانا نقض تفاسير القدماء، تمثلاً بمقولة أمين الخولي: أول التجديد، قتل القديم بحثاً.


وقبل أن أستأذن في الانصراف يتوجب عليّ هنا أن أقر بأني لا أدعي لنفسي خلقاً لتلك الرؤية من العدم أو البحث الذاتي، بل نسج لها وتخليق من وحي كتابات ومطالبات ومدارس شتى؛ شكلت في ذهني تصوراً لما يجب أن يكون عليه الحال.
وللحديث - إن شاء الله تعالى – يوم الاثنين بقية!

لمتابعة الكاتب عبر فيسبوك