التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 04:36 ص , بتوقيت القاهرة

يحيا التقليد.. تسقط التقاليد

ما معنى أن يقوم حارس العقار الذي تقطن فيه بطباعة بطاقات دعوة (ساذجةٍ في تصميمها ربما وفقيرة في جودتها) لحضور عقد قران ابنته على سباكٍ أو سائق ميكروباص ويرسل لك إحداها طامعًا أن تُشرفه بحضورك؟


ما معنى أن تسأل الصنايعي الذي يصلح لك نافذة مطبخك (حتى لا تتسلل لبيتك الحشرات والفئران)، إن كان يرغب في تناول مشروب؛ فيجيبك بلا تردد أنه لا يُمانع في كوبٍ من "النَصكافيه


ما معنى أن تقودك الظروف إلى الجلوس في كوفي شوب في حي من تلك الأحياء التي تُسمى "عشوائية"، فيأتيك النادل بقائمة مشروبات وأطعمة تعرف من خلالها (رغم الأخطاء الإملائية) أن بإمكانك تناول "الميلك شاك" أو "اللاتيه" أو "بيتزا سي فود" أو ساندوتش دجاج "كييف سبايسي"؟


ما معنى أن تُقلب بين صفحات الفيس بوك فتجد صورةً أو عدة صور لشباب (يبدو عليهم بوضوح قلة الحظ من التعليم والذوق الرفيع)، وقد تقمصوا دور النجوم السينمائيين أمام عدسات الكاميرا، مرتدين أكثر ثيابهم أناقةً وقد أحاطهم المصور بخلفية لغابة مليئة بالورود أو لسماء مُتخمة بالسحب؟


ما معنى أن تفتح جريدة أو موقعًا إخباريًا فتجد خبرًا مدعومًا بالصور عن مجموعة من طالبات جامعيات في محافظة إقليمية ريفية (أتى من ذات المحافظة التي تعد من أفقر محافظات مصر وأكثرها كثافةً سكانية حتى الآن أربعة رؤساء للدولة التي تدعي أنها جمهورية)، وقد قمن بعمل عرض لأزياء من تصميمهن وتنفيذهن؟


لا أظن أننا بحاجة إلى طرح مزيد من الأسئلة، فكلها وغيرها من الأسئلة الشبيهة تحمل ذات الإجابة.. نعم سيدي القارىء، إنهم يقلدون.. يقلدون بسذاجة قد تصل أحيانًا إلى حد الابتذال.


لكن.. لم يقلدون؟


لِمَ يُقلد صاحب المهنة البسيطة أصحاب المقام العالي؟ لِمَ يُقلد شباب العشوائيات أبناء الأحياء الراقية؟ لِمَ يُقلد الريف المدينة؟


يقلدون يا سيدي لأنهم ليسوا سذجًا أو أغبياء. هم أقل حظًا حقًا لكنّهم يدركون ذلك.. يقلدون لأنهم يريدون تغيير ذلك الحظ. يدركون أن هناك نمطًا للعيش أفضل من أنماطهم في الغرف الضيقة وفي الأحياء الفوضوية وفي القرى المختنقة. يودون النفاذ لعالم أفضل حيث "الناس الأفضل".. يودون النفاذ ولو بليلة واحدة، ولو بأكلة واحدة، ولو بصورة واحدة.


المقلدون يقلدون لأن المجتمع ــ رغمًا عن أنوف الجميع وعيونهم وآذانهم وجباههم ــ يتطور. المقلدون يقلدون لأنهم يدركون أنهم لن ينفذوا إلى الطبقة الأعلى إلا بتقليد تلك الأخيرة وتبني قيمها. المقلدون يقلدون لأنهم يودون تغيير العالم.. أتدري يا سيدي؟.. هم يغيرونه بالفعل.. ببطء ولكن بثبات.. بإرادة دون فلسفة أو تنظير.. بتلقائية وصدق وسذاجة وابتذال وغباء وقل ما شئت من نعوت سلبية أو إيجابية.. لكنّهم يغيرونه.


السخرية من محاولات التقليد الساعية للصعود الاجتماعي والحط من شأنها قد تُخيف البعض وتخجلهم، وقد توغر صدور البعض وتملأها حقدًا، لكنّها لن تنجح أبدًا في وقف أمواج التغيير الهادرة. نحن الآن في زمن يصعُب فيه أن يعيش الناس من الطبقات المختلفة في جزر منعزلة، فوسائل الاتصال والتواصل تتمدد كل يوم لتجعل من العالم كتابًا مفتوحًا.


انتهى إلى الأبد ذلك الزمن الذي كان يمكن أن تكون فيه لعبارة مثل "عيش عيشة أهلك" دلالة أخلاقية أو فلسفية مُبهرة. لِمَ يجب أن أعيش عيشة أهلي؟ من يملك الحق في أن يطالبني بألا أنسى نفسي؟ لم يجب أن أتذكر البؤس؟ لم أنت أفضل مني؟ هل كُتب ذلك في أَضَابير السماء مثلاً؟ نحن نحيا في عالم أبوابه مفتوحة على مصراعيها للجميع. وكل من يريد التطور من حقه أن يقلد من سبقه في المضمار. تذكر سيدي أنه لولا تقليدنا للغرب وتبنينا للعلم الحديث ولمؤسسات الجيش النظامي والجامعة الحديثة والبرلمان والمصنع لما أصبحنا دولة حديثة.. بقي أن نصبح مجتمعًا حديثًا.


المجتمع الحديث هو بالضرورة مجتمع متنوع ومتسامح ومفتوح. المجتمع الحديث يصحح نفسه بالنقد لا بالسخرية، يقدم النموذج الأفضل ويرفع سقف الطموح إلى عنان السماء وفي ذات اللحظة يشجع ويحتفي بكل محاولة للصعود ولو درجة عن الأرض. المجتمع الحديث هو مجتمع يقبل كل الناس ويحترم كل الناس على اختلافهم وتباين حظوظهم. المجتمع الحديث مجتمع يعترف بالفوارق الطبقية والفردية ولا ينكرها، لكنه يشجع على تقليلها حفاظًا على أمنه وسلامته. المجتمع الحديث لا يصنف الناس وفقًا لتقاليد وهمية لا وجود لها غير في أذهان من يحيون في الماضي. المجتمع الحديث لا يدافع عن تقاليد بالية أثبتت فشلها ورجعيتها وعجزها عن مواكبة حركة التاريخ. 


دعه يعمل .. دعه يمر.. دعه يجرب.. دعه يفشل.. دعه ينجح.. دعه يعيش ويقلدك.. حتى يتركك تعيش.