التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 12:49 م , بتوقيت القاهرة

المجد للعلم والعقل يا وطن

يمكنك ككاتب أن تستسلم لغواية الهِتاف، وتدبج مقالات ومُطولات بلاغية عن العدل الاجتماعي والحقد الطبقي، ويُمكنك من باب التعالم أن تستعرض على القراء، نظريات جان جاك روسو في العقد الاجتماعي، ونشوء الطبقية عند جون لوك، وتمجيد البروليتاريا عند ماركس، يمكنك أن تفعل أشياء كثيرة وأنت ترقص على الجثة المعنوية لوزير " العدالة والحقانية" المستقيل أو المُقال لا فارق، والحقانية من الحق والحقوق، والحقانية هي الاسم القديم للوزارة في العهد الملكي حين كانت وزارة التربية والتعليم اسمها وزارة المعارف العمومية.


يُمكنك ببساطة أن تترك قلمك وتتقمص دور مقدم برنامج توك شو مسائي يحقق نسبة إعلانات مساحيق غسيل وسمن طعمها ولا الفلاحي، وتزايد أكثر وأكثر على طبقية وعنصرية مسؤول، لتكسب ود الجماهير العريضة التي حزنت لإهانة عامل النظافة والحط من قدره، وهي بالطبع إهانة كبيرة ليست موجهة فقط إلى فئة بعينها بقدر ما هي موجهة إلى نظامنا القيمي والتعليمي الذي كرّس من انسحاق فئة والحط من قدرها اجتماعيًا إرضاءً لمظهرية ونزق فئات أخرى، لم تكن لتتفاخر وتتعالى إلَّا في وجود جموع من المنسحقين. لكن ذلك كله لن يفك اللوغاريتم الكبير لمجتمع يتفاخر حتى بعجزه بعدما أصبح العجز نفسه درجات.


بكل تأكيد لم يكن التصريح موفقًا "سياسيًا ومُجتمعيًا"، كان جارحًا وصادمًا لفئة شريفة من فئات المجتمع من حق أبنائها أن يكون لديهم الطموح المشروع لولوج درجات أعلى في السُلم الاجتماعي من خلال الحِراك الطبيعي الذي تكفله قوانين المنافسة والاجتهاد، والتطلع الشريف إلى المزيد من الصعود دون أن تكون مهن آبائهم تهمة تلاحقهم كلما ارتقوا علميًا، أو تكون سببًا لسد أفق الجدارة والأهلية للترقي اجتماعيًا أمام عيونهم.


لست بحاجة هنا إلى التذكير بأن الدماء الغالية التي صنعت نصر أكتوبر هي دماء أبناء الفلاحين والعمال وأصحاب المهن البسيطة، بالطبع مع دماء بقية طبقات المجتمع، وهي نفس الدماء التي تُراق الآن من أجل مصر في الشيخ زُويِد ورفح والعريش في مواجهة الإرهاب الخسيس. ليس في نيتي أن أذكر أحدًا بأن محمد علي باني مصر الحديثة كان دخاخني من مقدونيا.


وليس في نيتي أن يكون موضوع مقالي محاضرة ممجوجة عن صراع الطبقات، لكن الغبار الذي أثير في الأسبوع المنصرم عن تصريح أبناء عمال النظافة، بدا كمدخل إلى إشكالية معايير التميز الاجتماعي خاصة في جانبها التعليمي، وقد قادني ذلك إلى حقيقة تخلو من أي تحيز مؤداها أنه يُمكنك أن ترصد مطمئنًا وبدون عُصاب طبقي؛ أن كل نوابغ مصر، نعم كلهم، خرجوا من طين هذه الأرض من وسط المراوي والحقول والأحياء البسيطة ونجوع الصعيد.


 يُمكننا أن نشير إلى عالم الذرة الشهيد ابن ريف بنها الدكتور يحيى المشد، وابن دسوق العالم أحمد زويل، وابن دمياط العالم الفذ مصطفى مشرفة، وعالم المصريات الموسوعي الأعظم عالميا الدكتور سليم حسن ابن ميت غمر، ولا ننسي النوابغ أم كلثوم وطه حسين والعقاد والشعراوي وعبد الحليم وفاروق الباز وحسن فتحي وأمل دنقل والأبنودي وغيرهم.


لا يمكنك أن تشير إلى نابغة واحد خرج من الليسيه أو الميردي ديو أو فيكتوريا كوليدج وما شابهها من مؤسسات تعليمية أجنبية مع كامل الاحترام لدورها وهو بالقطع مهم، إلَّا أنها كرّست وجودها لتخريج طلاب يتفاخرون اجتماعيا بتعليمهم الغربي، ونطقهم للغات الأجنبية دون أكسنت، بقى التعليم في هذه المؤسسات التعليمية الأجنبية علي الدوام تعليمًا غير تقني، بل إن جامعة عريقة كالجامعة الأميركية في مصر مع تقديرنا لدورها، كونها لم تبدأ كمشروع استثماري كجامعات أجنبية أخرى ظهرت خلال السنوات الأخيرة.


ركزت الجامعة الأمريكية جُل دراساتها ومناهجها على العلوم الاجتماعية والإنسانية والفلسفة والآداب والاقتصاد والسياسة والأنثربولوجي، دون أن تلقي عظيم بالٍ إلى الدراسات العلمية والتقنية ذات المجال التطبيقي، كالفيزياء النووية والفلزات والكيمياء والجيولوجيا والطاقة والصيدلة المتقدمة والطب والمعامل وعلوم الليزر والنانو تكنولوجي والهندسة الوراثية وعلوم الفضاء والحوسبة المتقدمة Advanced computing وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا التحلية، وغيرها من العلوم التطبيقية التي بقيت حكرًا على الجامعات الغربية في بلادها دون السماح بالنقل الأمين للمحتوى العلمي والـ Know How ليس فقط إلى الجامعات المصرية ولكن حتى إلي فروع الجامعات الأجنبية في مصر، وهو على النقيض تمامًا من الحادث مع جامعات إسرائيل التي تحتل جامعتان بها صدارة التصنيف العالمي.


نقطة الضوء الوحيدة خلال السنوات الأخيرة كانت الجامعة اليابانية في برج العرب، والتي كان وراء موافقة اليابان على إنشائها جهد ومثابرة من وزيرة وطنية اسمها فايزة أبو النجا التي حكت لي بنفسها عن قصة الفوز بهذه الجامعة، وقد خاضت الوزيرة أبو النجا مفاوضات شاقة ومارثونية لإقناع اليابانيين بإنشاء جامعة تكنولوجية في مصر بعدما سبق أن رفضت اليابان نفس الطلب لماليزيا التي كانت تطلب معهدًا يابانيا تقنيا فقط وكذلك جنوب إفريقيا، وللأسف واجهت الجامعة اليابانية متاعب بيروقراطية عديدة مع نظامنا الجامعي الذي يبدو أنه ما زال على مسافة أبعد من الفكر والبحث العلمي العالمي.


بل إن علامات استفهام كبيرة تحيط بجامعات أجنبية في الخارج، تتلقى المبتعثين المصريين والعرب؛ لتمنحهم شهادات الدكتوراه سريعا وتُبقي لديها النابغين فقط وتمنحهم الجنسية، وقد قال لي أكاديمي مصري مقيم بالغرب إن أسئلة عديدة ما زالت مطروحة حول دارسين يغيبون لسنوات قليلة بدول غربية، ويعودون بشهادات الدكتوراه ليعلقوها على يافطات، خريج جامعة كذا، وتتعجب من مستوى لغتهم الأجنبية، وعدم تقدمهم بعد عودتهم بأي دراسة أو ورقة بحثية تنشر في دورية علمية ذات شأن مثل Nature أو Science وغيرها وهو أمر تتشدد فيه دول كالصين والهند وإسرائيل حيث لا بد من برهنة الدكتوراه وإثباتها بإسهامات بحثية رصينة على المستوى الدولي، وليس الحصول على شهادة تعلق على يافطة في وسط البلد زميل معهد كذا، أو علي بطاقة تعارف وكفى، وهو أمر يشير إلى تساهل ما من جامعات في الغرب مع دارسين، عرب تعرف أن غاية أملهم الحصول على تلك الشهادة الكارتونية، التي تثبت أنه خريج جامعة كذا أو زميل كلية كذا الملكية.


إذا كنا في مصر نتطاحن من أجل التفاخر الزائف بين ابن عامل النظافة وابن القاضي، فيسوؤني أن أعلن لكم أننا جميعًا نقف في نفس البئر السحيقة كتفًا بكتف، فكما أن شوارعنا غير نظيفة وعمال النظافة يقتلهم العوز والانسحاق، فإن نظامنا العدلي يئن تحت وطأة محتوى قديم يُدرس بكليات الحقوق التي أصبحت مفرخة بدون ضابط لآلاف الخريجين بلا عمل قانوني حقيقي وآلية قضائية غارقة في طوفان من القضايا المُعلقة لسنوات، وعدم مواكبة النظم القضائية المتقدمة التي تكفل عدالة ناجزة ومساواة بين الناس، شأنهم شأن نظامنا التعليمي ومؤسسات البحث العلمي التي تبحث هي الأخرى عن دال التفاخر التي تسبق الاسم كي يدخل حاملها دائرة العصمة من ازدراء طال فئات أخرى بالمجتمع. إنه صراع بين من يقفون في الخلف ولا يريدون أن ينظروا خلف السور حيث يدور سباق من نوع آخر عماده العلم والعقل وليس نسب أو مهنة الأب.