التوقيت الخميس، 16 مايو 2024
التوقيت 10:05 م , بتوقيت القاهرة

الحجاب وعمر بن الخطاب (1)

خرجت امرأة مُخْتَمِرَةٌ مُتَجَلْبِبَةٌ، فقال عمر: مَنْ هذه المرأة؟ فقيل له: هذه جارية لفلان- رجل من بنيه- فأرسل إلى حفصة (ابنته) فقال: من حملك على أن تُخَمِّرِي هذه المرأة وَتُجَلْبِبِيهَا وتشبهيها بالمحصنات، حتى هممت أن أقع بها لا أحسبها إلا من المحصنات؟ لا تشبهوا الإماء بالمحصنات. البيهقي في السنن الكبرى. وكان عمر إذا رأى أَمَةُ "مُختَمِرة" ضرَبها وقال: أتتشبهين بالحرائر؟! ابن تيمة في مجموع الفتاوى. وكان عمر رضِي الله عنه إِذا رأى أمة قد تقنعت وتجلببت علاها بِالدرةِ، ويقول: أتتشبهين بالحرائر؟! السمعاني في تفسيره.

والمعروف عن عمر أنه ضرب أمة رآها مُقنعة وقال اكشفي رَأسك وَلَا تتشبهي بالحرائر أخرجه عبد الرَّزَّاق بإسناد صحِيح. ابن حجر في الدراية. وقال أنس بن مالك: مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة، وقال: يا لَكَاعِ أتتشبهين بالحرائر، ألقي القناع. البغوي في تفسيره. وفي رواية أخرى: وكان عمر  إذا رأى أمة مقنعة علاها بالدرة وقال: ألقي عنك الخمار أتتشبهين بالحرائر يا دَفَارُ؟!

إذن فالفاروق- رضي الله عنه- لم يكن يكتفي بنهي الإماء عن تغطية الرأس أو ارتداء ما يُعرف في زماننا بالحجاب، بل كان يضربهن، بل ويسبهن ويستحقرهن، فكلمة لكاع كما يقول الخازن حرفيا: تقال لمن يستحقر به مثل العبد والأمة والخامل والقليل العقل، مثل قولك يا خسيس.[1] وهو الأمر الذي يؤكده صاحب بيان المعاني حين يقول: لعلمه أنها ممتهنة خسيسة مملوكة. أما كلمة دفار تعني يا نتنة أو يا منتنة! 

وإذا سألنا، لماذا كان عمر لا يتهاون في هذا الأمر؟ ولماذا كان ينهي ويسب ويضرب من تغطي رأسها من الإماء؟ فيجيبنا الخطيب الشربيني بالقول: إنما فعل ذلك خوفا من أن تلتبس الإماء بالحرائر، فلا يُعرف الحرائر، فيعود الأمر كما كان. [2]

فما هو ذاك الأمر الذي كان؟

يجيب الواحدي النيسابوري عن هذا السؤال في تحديده لسبب نزول الآية فيقول: كان قوم من الزُّناة يتَّبعون النساء إذا خرجن ليلا، ولم يكونوا يطلبون إلاَّ الإِماء، ولم يكن يومئذ تُعرفْ الحرَّة من الأمة لأنَّ زِيَّهُنَّ كان واحدا، إنما يخرجون في درع وخمار، فنهى الله سبحانه الحرائر أن يتشبَّهنَّ بالإماء وأنزل قوله تعالى: "يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ". أَيْ: يرخين أرديتهنَّ وملاحفهنَّ ليُعلّم أنهنّ حرائر، فلا يُتعرض لهنَّ وهو قوله: "ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يؤذين وكان الله غفورا..". [3]

ونجد الإجابة نفسها عند الطبري حين يُفسر الآية بما نصه: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن. ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنّ؛ لِئَلَّا يَعْرِضَ لَهُنَّ  فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول. وفي موضع آخر عند المفسر نفسه نقرأ: وقد كانت المملوكة إذا مرت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء. كما نقل الطبري عن مجاهد ما نصه: قوله (يُدْنِينَ عَلَيهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) يتجلببن، فيُعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة.[4]

ومن تفسير الثعلبي نورد هذا النص: نزلت في الزّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتّبعون النساء إذا تبرّزن بالليل لقضاء حوائجهنّ، فيرون المرأة فيدنون منها، فيغمزونها، فإن سكتت اتّبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلّا الإماء، ولم يكن يومئذ تعرف الحرّة من الأمة ولأنّ زيّهن كان واحدا، إنّما يخرجن في درع واحد وخمار، الحرّة والأمة، فشكون ذلك إلى أزواجهنّ فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه. فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.. ثمّ نهى الحرائر أن يتشبهنّ بالإماء، فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن ليعلم أنّهنّ حرائر فلا يتعرّض لهنّ ولا يؤذين.[5]

ومن تفسير السمعاني نقرأ: أَن المدينة كانت ضيقة المنازل، وكان النساء يخْرجن إِلَى الْبَوَار بالليالي لقضاء الحاجات، وكان قوم من المنافقين والفاسقين يرصدونهن ويتعرضون لهن، فَمن كانت عفيفة منهن صاحت وتركوها، وَمن كانت غير عفيفة أعطوها شيئاً وواقعوها.[6]

إذن فالمدينة في زمن الرسول كانت تواجه مشكلة "حضارية" فرضها عليها نصيبها الشحيح من التمدن؛ وهي مشكلة عدم وجود حمامات داخل المنازل، الأمر الذي كان يستدعي خروج النساء ليلا لقضاء الحاجة، وهو الخروج الذي كان يستتبعه التحرش بهن من قبل الرجال، رغبة في ممارسة الزنا، الذي كانت تمتهنه الإماء على وجه التحديد.

إذ ذاك وبعد شكوى الأزواج لرسول الله، نزلت الآية لتوصي الحرائر بارتداء زي معين يميزهن عن الإماء، ومن ثم يجنبهن التحرش ودعوات ممارسة الزنا في مجتمع يصر التبجيليون على وصفه بالمثالية!

لهذا السبب رأينا عمر بن الخطاب لا يتهاون مع أي أمة تغطي رأسها، بل كان يعنفها ويسبها ويضربها، رغم أنها لم ترتكب كبيرة ولم تقترف إثما، وهو الأمر الذي لفت انتباه قدامى الفقهاء، وتساءلوا على إثره، كيف يضرب عمر بن الخطاب إحداهن إذا غطت رأسها، بينما المعروف أن التَّعْزِير يكون على ارتكاب المحظورات والمحرمات؟

وكان الجواب: إنما فعل ذلك لأن الفساق إذا تعرضوا للحرائر كان ذلك أشد فساداً، والتعرض للإماء دون ذلك في الفساد، ففعل ذلك لئلا يَجِبَ الأول فيكون فيه تقليل الفساد. وهي إجابة طبقية بامتياز، وتؤكد أن الغرض من وراء تغطية الرأس لم يكن سوى التمييز الطبقي بين الحرة والأمة، ولم يكن للفتنة أو الغواية صلة بالأمر من قريب أو  من بعيد. وهي أيضاً، كما وهو واضح، إجابة لا تبالي إذا ما تعرضت الأمة للتحرش ودعوات ممارسة الزنا، بينما يختلف الوضع مع الحرة.

الآن يجب علينا أن نسأل: لماذا عمر بن الخطاب بالذات؟ أعني: لماذا لم نر من الصحابة غير عمر يهتم بتلك المسألة كل هذا الاهتمام للدرجة التي دفعته، وهو في نهاية الأمر رجل عربي، أن يضرب النساء مرارا وتكرارا؟

هذا هو السؤال الذي سنجيب عليه في مقال الخميس إن شاء الله تعالى.

للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 المصادر: 

[1]  لباب التأويل في معاني التنزيل. الخازن (المتوفى: 741هـ) تصحيح: محمد علي شاهين الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت. جـ 3. صـ 437.

[2]  السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير. شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (المتوفى: 977هـ) الناشر: مطبعة بولاق - القاهرة

[3]   الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. الواحدي النيسابوري (المتوفى: 468هـ) تحقيق: صفوان عدنان داوودي. الناشر: دار القلم – دمشق. صـ 873.

[4]  تفسير الطبري. جـ 20. صـ 325. المحقق: أحمد محمد شاكر. الناشر: مؤسسة الرسالة

[5]  الكشف والبيان عن تفسير القرآن. الثعلبي (المتوفى: 427هـ)  جـ 8. صـ 64. تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور. الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان

[6]  تفسير القرآن. السمعاني. (المتوفى: 489هـ). جـ 4. صـ 306.