التوقيت الأحد، 28 أبريل 2024
التوقيت 12:15 ص , بتوقيت القاهرة

زبالة في القلب

رحلة الإنسان في قبول الاختلاف والخروج من حيزه الضيق لأهل دينه أو عرقه أو طائفته، والتنازل عن الذاتية والأثرة والإقرار بحقوق إنسانية موازية للجميع، هي رحلة شاقة طويلة ومرهقة عبر التاريخ، تداخلت فيها الكثير من العوامل الدينية والثقافية والعسكرية حتى تنضجها، وما زالت لم تصل إلى الأوج.


فأمريكا، أكبر بلد يدعم الحريات في العالم، لم يحكمها سوى رئيس أسمر واحد من ضمن 44 رئيس توالوا على المنصب. رغم أهمية الأفرو أمريكان في بناء الدولة. ولم يحكمها سوى رئيس كاثوليكي واحد كاستثناء لم يتكرر وهو الرئيس جون كينيدي الذي تم اغتياله بطريقة مجهولة. ولم تأت على المنصب امرأة واحدة. وربما تكون هيلاري كلينتون في الانتخابات المقبلة هي المرأة الأولى.


وما دون ذلك فالـ 42 رئيسا الباقين ينتمون للقاعدة الضيقة، ذكر/ بروتستانت / أبيض.


وقديما كان كل شعب يرى في أهله وبنيه أنهم هم المواطنون الذين يتمتعون بالحق في الحياة والعبادة والتملك، والشعوب الآخرى هم برابرة ودهماء ووحوش البرية التي يجب قتلها وتجريدها من حقوقها الإنسانية في أي شيء. حكم ذلك المنطق العالم القديم آلاف السنين في العصور القديمة والحديثة، وصولا إلى مرحلة الاستعمار التي حملت شعار "عبء الرجل الأبيض لتمدين الشعوب المتخلفة"، فما كان منهم إلا قتل ونهب وإحراق البلدان، وكانت بريطانيا السبب في إجهاض تجربة ديمقراطية دستورية وليدة في مصر ربما لو كتب لها الاستمرار لصارت مصر أعظم من بريطانيا في هذا الصدد. كذلك هتلر الذي رأى في الجنس الآرى جنسا أعلى شأنا من شعوب العالم، فأقام حربا مات فيها أكثر من 2% من سكان العالم.


عندما جاء الإسلام ألغى قاعدة المحسوبية بناء على جنس أو عرقية أو انتماء جغرافي وقال (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ليكون المعيار هو معيار شخصي، سلوكي، محاولة لكل انسان بالارتقاء بواقعه وحياته حتى ينال ذات التشريف، دون أن يرثه أو يورثه. وعندما قال نبي الله ابراهيم (ومن ذريتي) ليضمن لهم النبوة والصلاح، فأجابه الله (لا ينال عهدي الظالمين)، فأبناء الأنبياء لن يأخذوا ميزة إضافية لو كانوا يظلمون البشر. كذلك قال نوح (رب ان ابني من أهلي) فقال الله (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح)، فعبر الله عن الإنسان بالعمل. أثر وجوده في الحياة، فمعيار العمل والظلم والعدل والتقوى، كانت معايير جديدة يقحمها النص الديني على نفسية البشر لتعديل مسار منحرف لقرون طويلة. وهذا المعيار هو الذي أنتج فيما بعد قوانين حقوق الإنسان.


وعندما دخل الرسول المدينة آخى بين الناس أخوين، وجعل عمه حمزة أحد شرفاء مكة وفرسانها أخا لمولاه زيد، الذي كان عبدا. ليعلمهم القاعدة الأولى، أن السادة والعبيد صاروا في إخوة انسانية واحدة دون تمييز. وكانوا يمشون متجاورين ويأكلون من طعام واحد ويعبدون الله بذات التكاليف، وفي المؤسسة الأولى التي بناها الرسول، كان الناس صفا مرصوصا متجاورا الكتف في الكتف، ليذيب أي فروق نفسية واجتماعية فيما بينهم ولو لدقائق. ولو دخل أحد العبيد إلى المسجد مبكرا عن سيده ليصلى في الصف أمامه، فعند السجود تكون رؤوس السادة عند أقدام العبيد.


ليس هناك أسهل من تغيير القوانين وسن التشريعات والدساتير لكنها ستظل حبرا على ورق بلا قيمة ويستطيع الناس القفز فوقها والالتفاف حولها لو لم يؤمنوا بها. الأصعب هو تعميق الإيمان في القلوب وغرس قيم المساواة في نفوسهم فتقتل ما بداخلهم من كبر وظلم.


تصريح الوزير الأخير الذي يقضي بأحقية فئة بعينها في تولي المناصب العليا دون فئة أخرى، هو تصريح كاشف وليس مُنشئا، وسبقه تصريحات مماثلة كثيرة في ذات السياق، والواقع العملي يؤكد ذلك، وسيظل ذلك واقعا ملموسا حتى لو خشينا الجهر به في العلن.


وهو ما يؤكد أن النص الديني، مهما بلغ وضوحه وإلزاميته، ليس بالضرورة أن يؤثر في الواقع تأثيرا فوريا، ولكن يجب أن تتهيأ الظروف الاجتماعية وتدرج نفوس الناس لقبوله والاعتقاد فيه، سواء كان نصا رحيما عادلا أو نصا يبدو فيه العدوان والغلظة.


فتغيير نفوس الناس رحلة طويلة شاقة ومعقدة وتخضع لعوامل كثيرة وتمثل تحديا حقيقيا وملحا أكثر من عبئ نقل الجبال وردم المحيط.


ونكمل في مرات قادمة..