التوقيت الخميس، 28 مارس 2024
التوقيت 06:50 م , بتوقيت القاهرة

حرب تكسير العظام ولعبة التوازنات السياسية الصعبة

تقوم  لعبة السياسة، في الأساس، على عملية تنافسية بين قوى وكتل تُمثل أطيافًا واتجاهات اقتصادية وفكرية مختلفة داخل المجتمع، كما هي العادة في أي دولة مؤسسات، فإنّ قوة الأفراد مهما بلغت تظل أضعف من قوة المؤسسات، في الدول الديمقراطية هُناك مِن ضمن المؤسسات الموجودة في الدولة مؤسسات سياسية ومجتمعية ونقابية كالأحزاب وجماعات الضغط والمنظمات والنقابات وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، أمّا في الدول غير الديمقراطية أو التي عانت مدة طويلة من غياب الديمقراطية، فإنّ المؤسسات القائمة تكون محصورة في مؤسسات الدولة عمومًا وفي المؤسسات الأمنية والسيادية على وجه الخصوص.


وجود لاعب واحد فقط  في السياسة يكون قرينا للنظام الشمولي، حيث تبتلع الدولة كل شيء بمنطق العبارة الشهيرة لمؤسس الفاشية الإيطالية بنيتو موسوليني (كل شيء داخل الدولة، لا شيء خارج الدولة، لا شيء ضد الدولة)، أشهر الدول التي طبقت هذه النماذج هي الدول ذات النظم الفاشية والشيوعية أو الأنظمة التي تحمل  الكثير من مكوناتهما، جربت مصر هذا النظام لأكثر من عِقدين عندما تمت مصادرة الفضاء العام والعمل السياسي والنقابي وتحويله كله إلى ترس في آلة ضخمة يديرها تنظيمٌ واحدٌ هو (مجلس قيادة الثورة- هيئة التحرير- الاتحاد القومي- الاتحاد الاشتراكي)، وكان أثر وجود التنظيم الواحد فقط على عقلية وأداء المصريين السياسي والفكري والاقتصادي أثرًا مدمرًا، ولكن هذا النظام ليس فقط فقد مشروعيته السياسية القائمة على  احتكار السلطة بدعوى (أنهم يعرفون أكثر) في يونيو 1967، ولكنّه أيضًا فقد قابليته للاستمرار كنظام فيما بعد أزمة النفط الأولى  1973 ثم بنهاية الحرب الباردة أواخر الثمانينات، وأصبح من المستحيل في ربع القرن الأخير أن تحتفظ بنظام شمولي إلا إذا كنت تملك بالفعل منظومة معزولة تمامًا كالتي يملكها نظام كوريا الشمالية.


كان السادات ذكيًا بتحولاته المعروفة بالصدمات الكهربائية في قضية الانفتاح، وفي قضية المنابر ثم الأحزاب السياسية، وفي قضية السلام مع إسرائيل، حوّل بهذه التحولات النظام الشمولي إلى نظام سلطويّ يحتفظ بشكل هامشي من الديمقراطية، يحميها شكلٌ من أشكال حرية التنافس المنقوصة والمحدودة، وحرية السوق المقيدة.


لهذا السبب فإنّ كثيرين شخَّصوا مشكلة النظام المصري في غياب الديمقراطية، ولخصوا المشكلة في نظام مبارك كنظام وكأشخاص. ساهم نمو تطلعات الطبقة المتوسطة في إشعال الثورة آخر الأمر  ضد هذا النظام في 25 يناير، ولكن المشكلة ظهر لاحقًا أنها كانت أعقد من ذلك، فغياب المقدمات الحداثية للديمقراطية في مصر، إضافة لغياب أي مشروع فكري وأيديولوجي وسياسي لنظام مبارك طيلة عقود، ساهم في احتلال القوى المناهضة للتطور والمعادية للحداثة بل والمعادية للدولة نفسها في أحيان كثيرة مساحات واسعة من أفكار العقل المصري، وهو ماكان يعني بالضرورة أن مشهدًا سياسيًا كهذا وبدون طاقم إخراج لديه رؤية سياسية، لا بد وأن ينتهي لصناعة  سُلطة أكثر تخلفًا من سابقتها وأكثر استبدادًا، كذلك بحيث تحمل كل عيوب نظام ما قبل 2011،  وتضيف إليها عيوب التنظيم غير المنتمي للوطن، المعادي للحداثة، والرافض أصلاً لفكرتي الحرية والديمقراطية في تأصيلاته الفكرية إلا لو جاءت به إلى السلطة.


أدي مشهد المأزق السياسي المصري، وغياب الأمن، وانهيار المؤسسات، وحصار المحاكم، وإرهاب المواطنين بالميليشيات، وعجز  المجتمع السياسي عمومًا وأحزابه المدنية على وجه الخصوص- المتجمعة في جبهة الإنقاذ- عن إيجاد حل للأزمة السياسية (والتي كانت في جوهرها وعمقها أزمة حول هُوية انتماء المصريين،ثم هُوية الدولة) إلى نتيجة متوقعة وهو نزول الجماهير للتخلص من الإخوان بأي ثمن، كما أدي إصرار الإخوان وحلفائهم على الدخول في مواجهة دموية إلى تأجيل السؤال السياسي خلف السؤال الأمني لعامين؛ لأن الجميع كان يُدرك ضرورة هندسة نظام جديد لا هو شمولي كنظام عبد الناصر ولا سلطوي كنظام مبارك، ولا يسمح بالتجييش الطائفي والديني كنظام الإخوان، ولا هو نظام خالٍ من المعايير اللازمة لحماية الدولة ومفاهيمها؛ لأن نظامًا كهذا سيقود إلى عودة نفس التيارات المتطرفة من الشُبّاك بعد طردها من الباب.


ولأن النظام المطلوب هو نظام جديد، فإنه ظل مؤجلاً مع وضع خطوطه العريضة في الدستور،  بحيث يُصبح النظام ضامنًا لعملية توازن سلطة بين الرئيس ورئيس الحكومة والبرلمان، وكانت الفكرة الأساسية هي (ليس مهمًا أن نتشاجر الآن حول تفاصيل النظام السياسي لأن الأهم هو أن يظل هناك نظام).


لهذا السبب فإن  مابعد إقرار الدستور كان "تَحْصِيل حَاصِل" ، كان مفهومًا أن معركة الرئاسة هي معركة محسومة، وأن غالبية القوى السياسية الراغبة في العمل بشكل جاد ترغب في دعم السيسي ووصوله للرئاسة كضمانة لاستقرار منظومة 30 يونيو، التي بناها تحرُّك الجيش، ولو لبضع سنوات قادمة كبديل عن تحول قيادة الدولة ككل إلى شكلٍ سياسيّ ينتمي لمسرح العرائس، يكون فيه كل الأبطال لا يملكون قرارهم بشكلٍ حقيقي.


الجميع إذن انتظر معركة البرلمان باعتبارها المعركة التي ستفض الاشتباك بين القوى السياسية الموجودة على الساحة بعد 30 يونيو.
تأخُّر إجراء الانتخابات لبضعة شهور ليس المشكلة الرئيسية إذن الآن، ففي النهاية الجميع يعلم أن الانتخابات ستجرى، وأن المشاكل الإجرائية ستُحل بعد ضبطها دستوريًا، وأن الانتخابات لن تتأخر في أسوأ الظروف عن أكتوبر المُقبل، لكن المشكلة الرئيسية هي في طبيعة النظام الذي تمت هندسته، فالنظام الذي يمنح رئيس الحكومة سلطات واسعة هو نظام مقلق وبرغم  أن كون نسبة القوائم قليلة بالنسبة إلى الفردي شكل ضمانة لاستقرار النظام، خصوصا عندما تم احتواء غالبية القوى المؤثرة في قائمة أو قائمتين كبار، لكن الأزمة الموجودة سببها الحقيقي هو التخوف من سيطرة أحزاب معينة على عدد كبير من مقاعد الفردي، خصوصًا  الأحزاب المرتبطة برجال أعمال كبار أو الأحزاب التي يظن البعض أنها ستحصد كل أصوات التيارات الدينية المحافظة، باعتبارها تُمثل الحزب الديني الوحيد.


لهذا فالمشهد الحالي يعني اشتداد حرب تكسير العظام بين القوى المحافظة، التي تسعى (لتفتيت) تكتلات البرلمان المُقبل؛ لأنها تعتقد أنها بالتالي تحمي الدولة وتحفظ التوازنات، والقوى التي تسعى لإيجاد برلمان مُعبر عن توجهاتهم ومصالحهم الاقتصادية ( كالأحزاب الليبرالية والرأسمالية والفلولية إن جاز التعبير)، والقوي التي تسعي للاستحواذ على دعم  كل أصوات الإسلاميين(كحزب النور) أو التي تسعي لعزل الإسلاميين سياسيًا تمامًا باعتبار هذه هي الفرصة المناسبة لها؛ لتصبح معارضة يسارية لسلطة رأسمالية كالقوى الاشتراكية والقومية.


حتى وقتٍ قريب لم يكن المواطن يرى في هذه المعركة بين القوى الأربع سوى أطرافها الإعلامية، التي تخوض حربًا شرسة فيما بينها على صفحات الصحف وشاشات القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكن احتداد شدة هذا الصراع مؤخرًا تحول إلى تفجر الصراعات الداخلية داخل الأحزاب، وبدء تصفية الحسابات بين أعضائها قبل الانتخابات بشهور.


إنها ببساطة حرب تكسير العظام ومعركة لي الأذرع، المعركة الأخيرة التي إمّا أن ينتج عنها نظام سياسي أكثر فاعلية من ذلك القائم عام 2010، أو أنها ستقود لعودة انصراف الجماهير المصرية بعيدًا عن السياسة بشكل عام بكل ما يحمله ذلك من مميزات وعيوب.


للتواصل مع الكاتب