التوقيت الجمعة، 03 مايو 2024
التوقيت 04:48 ص , بتوقيت القاهرة

في أصول السياسة الخارجية المصرية

"ولست أدري لماذا يُخيل إليّ أن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دورًا هائمًا على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يُخيل إليّ أن هذا الدور الذي أرهقه التجول في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا، قد استقر به المقام مُتعباً منهوك القوى على حدود بلادنا يُشير إلينا أن نتحرك، وأن ننهض بالدور ونرتدي ملابسه فإن أحدًا غيْرنا لا يستطيع القيام به".


هذه الفقرة الشهيرة من كتاب "فلسفة الثورة"، الذي عبر فيه جمال عبد الناصر عن خلاصة فكره في القضية الوطنية، وضعت اللبنة الرئيسية لسياسة مصر في الشرق الأوسط. الافتراض الرئيسي هنا هو أن مصر لها دور معين في مُحيطها الواسع، وأن هذا الدور ليس اختياريًا وإنما هو نابع من الحتمية الجغرافية أولاً، والتراكم الحضاري والثقافي ثانيًا. "فرضية الدور" ظلت مُحركا رئيسيًا للسياسة الخارجية المصرية، ليس فقط في الزمن الناصري، وإنما في الأزمنة التالية، وإن اتخذ هذا الدور أشكالاً مُتباينة- وأحيانًا متناقضة- في التعبير عن ذاته.


وإذا كان عبد الناصر قد حدد دوائر ثلاثًا للتحرك الخارجي (أي ممارسة الدور)، فإنه أشار بوضوح إلى أن " الدائرة العربية هي الأهم"، وتليها الإفريقية فالإسلامية. وفي القلب من الدائرة العربية تقع القضية الفلسطينية التي تناولها الكتاب باعتبارها القضية المركزية لمصر والعالم العربي، وكان ذلك طبيعيًا بحكم التأثير الكبير الذي تركته نكبة 1948 في نفوس ضباط الجيش. وهذه بدورها لبنة ثانية تم وضعها في بُنيان التحرك الخارجي لمصر خلال العقود التالية، إذ تمحور هذا التحرك –بصور شتى- حول القضية الفلسطينية وإدارة العلاقة مع إسرائيل. ويُلاحظ هنا الاتصال بين "فرضية الدور"، ومركزية القضية الفلسطينية، ذلك أنه وقر في ضمير ضباط يوليو 52 أن وجود إسرائيل واحتلالها للأرض الفلسطينية يمثل- بالضرورة- قيدًا على ممارسة الدور المصري في المُحيط..


هنا يثور السؤال: هل كانت هاتان الفرضيتان (الدور الإقليمي ومركزية القضية الفلسطينية) تعكسان اتصالاً طبيعيًا أم انقطاعًا مفاجئًا في التوجه الخارجي لمصر؟


الحقيقة أن هذا التوجه شرقًا نحو العالم العربي كان امتدادًا طبيعيًا للتجربة التاريخية لمصر وانعكاسًا لتكوينها الحضاري والثقافي، فالمكون الرئيسي في الثقافة المصرية هو الانتماء للعروبة والإسلام. وموقع مصر المتوسط، فضلاً عن تماسك نسيجها الحضاري وتجانسه، دفعها- بالأخص في أوقات قوتها- إلى تبوء دور قيادي في محيطها الشرقي. وخلال نحو ستمائة عام توالت على حُكم مصر عددٌ من الأسرات الفاطمية والأيوبية والمملوكية. وكانت مصر في هذه الفترة مركزًا للعالم الإسلامي، ولعبت دورًا محوريًا في صد الغزوات الصليبية والمغولية. لقد ترسخ في وعي من يحكم مصر أن الشرق هو مجال حيوي للنفوذ المصري، وأن مصر عليها إما أن تُمارس السيطرة في هذا المحيط، أو تبقى – في حال الضعف والانكفاء- عُرضةً للتهديدات القادمة منه.


والثابت أن التوجه العروبي كان يمثل أحد الخطوط في السياسة المصرية قبل يوليو 1952. لم ينعكس ذلك في قيادة مصر للجهد السياسي لإنشاء جامعة الدول العربية فحسب، بل في كثير من توجهاتها الخارجية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد كان طرح القضية الفلسطينية في عُصبة الأمم سنة 1937 من أولى ممارسات مصر السيادية لسياستها الخارجية بعد توقيع معاهدة 1936. 


على أن دور مصر في القضية الفلسطينية، وبالتحديد مدى انخراطها فيها وطريقة تعاطيها معها، لم يكن محل إجماع بين الطبقة السياسية. ويُستدل على ذلك بوضوح من المناقشات التي دارت في البرلمان قبيل دخول حرب 1948. فالثابت أن الوفد –ولم يكن في الحُكم وقتها- عارض دخول هذه الحرب. وكتب مصطفى النحاس في مذكراته أنه "كان وراء هذا كله فاروق الطامع في أن ينتصر جيش مصر ويُعلن نفسه كما قلت خليفة للمسلمين، ومن أجل هذا أصدر الأمر لحيدر باشا بتحريك الجيش دون علم رئيس الوزراء، وابتلع النقراشي هذه الإهانة وكذب وضلل على مجلس الشيوخ حين استجوبته المعارضة وأشاد بكفاءة الجيش وقدرته واستعداده".


وليس الأمر وقفًا على الوفد والنحاس، فمن المعروف أن ساسة بارزين- مثل إسماعيل صدقي- عارضوا دخول الحرب. وربما يثير الاندهاش أن نعرف أن موظفًا كبيرًا هو الدكتور وحيد رأفت، وكان يعمل وقتها مستشارًا للدولة، قد وجه مُذكرة رسمية إلى كل من رئيس الوزراء ووزير الخارجية يُعارض فيها الاستمرار في القتال وينصح بالقبول بالهدنة في يوليو 1948 على أساس أن " الدولة اليهودية قد أُنشئت في فلسطين واعترفت بها أكبر الدول نفوذا وسلطانا وتبادلت معها نوعا من التمثيل الدبلوماسي، وفتحت لها الولايات المتحدة القروض، وهي مصممة على الوقوف بجانبها ضد كل محاولة من جانب العرب ترمي إلى القضاء على كيانها.


إنكارنا للأمر الواقع لا يغير منه شيئا، فالحكمة والحالة هذه تقتضينا توجيه جهودنا إلى ناحية عملية.. بحصر هذه الدولة النكودة في أضيق الحدود الجغرافية الممكنة. ولو تم ذلك لكان نصرا دبلوماسيا كبيرا لنا. أما اقتفاء أثر العناصر المتطرفة من رجال الجامعة العربية والتمسك إلى النهاية بوحدة فلسطين السياسية، تلك الوحدة التى لم يعد لها وجود، فلن يؤدي إلا إلى الزج بنا في أتون حرب لن توصلنا إلى أي نصر، حربي كان أم سياسي".


ومما يسترعي الانتباه أن الرأي الوارد في هذه المذكرة لا يعكس –كما هو واضح- توصية تكتيكية أو اقتراحًا للتعامل مع  أزمة عابرة، وإنما ينطوي على رؤية سياسية مُحددة حيال جدوى الانغماس في الصراع من الأصل، خاصة وأن وحيد رأفت يشير في موضع آخر من المُذكرة إلى أن "الإرادة التي سوف تسود في النهاية وتملي وتتحكم ليست إرادتنا. وهذا يكفي وحده للتساؤل عن الفائدة العملية التى ستعود علينا من متابعة القتال في مثل هذه الظروف.


هذا القتال الذي سيكلفنا، دون نتيجة ما، أرواحًا كثيرة عزيزة وعتادا وذخيرة ونفقات باهظة سوف تظل عبئا ثقيلا على ميزانيتنا أعواما عديدة مقبلة، فتحد من برامج الإصلاح بل ومن رغبتنا الإجماعية فى النهوض بجيشنا الناشئ إلى المستوى العالي الذي نرجوه له. إن الوقت الآن ليس، كما يظن البعض، للسيف والمدفع بل للسياسة والدبلوماسية. ولا شك أن قبول الأمر الواقع ما دمنا لا نستطيع رده خير من الجري وراء خيال المبادئ التي قد تلقي بنا إلى التهلكة".


يُشير ما سبق بوضوح إلى أن انخراط مصر في الصراع الدائر في فلسطين كان – في أقل القليل- مسألة محل نقاش بين الطبقة السياسية في مصر. بل وأن القرار المصيري بدخول هذه الحرب –التي كانت علامة فارقة في تاريخ المنطقة- كان، في جانب مهمٍ منه، انعكاساً لتفاعلات داخلية محضة. ولا مجال هنا لتفصيل الأبعاد المختلفة لهذه التفاعلات، وخاصة فيما يتعلق بدور جماعة الإخوان المسلمين وتأثيرها البارز في طريقة تعامل مصر مع الصراع في فلسطين.


بهذا المعنى، يتبين أن الفرضيات المؤسسة للسياسة الخارجية بعد يوليو 1952 كانت – في جانب منها- استمرارًا لتيارات فكرية وسياسية عروبية وإسلامية لها تأثيرها في السياسة والثقافة والمجتمع في العقود الثلاثة السابقة على الثورة. لقد شهدت هذه الفترة  استقطابًا حادًا وصراعًا ضاريًا على "روح مصر"؛ وما إذا كانت هويتها عربية (كما قال عبد الرحمن عزام) أو إسلامية (كما نادى حسن البنا) أو بحر متوسطية (كما بشر طه حسين). وفي القلب من هذه التجاذبات، كانت العلاقة مع الغرب حاضرة وبارزة كأهم قضية في الثقافة والسياسة المصرية. ولا شك أن هذا الاستقطاب الشديد انعكس بدوره على التفكير في الشأن الخارجي.


ومع ذلك، يبدو واضحًا أن المنطلقات الرئيسية التي تبنتها يوليو (وبخاصة مركزية القضية الفلسطينية)، لم تكن محل إجماع أو توافق عام كاسح كما جرى تصوير الأمر خلال العقود التالية، بل كانت تعكس تيارًا- من بين تيارات عدة- في السياسة والمجتمع المصري. وهذه نقطة تنطوي على أهمية كبيرة لأنها تُفسر الكثير من "الانقلابات" التي جرت فيما بعد على بعض من أسس التوجه الخارجي الذي أرسته يوليو 1952.


ومن جانب آخر، يُلاحظ أن التفاعلات التي أفضت في النهاية إلى دخول حرب 1948 ظلت تتكرر- بصور مختلفة- في الفترات اللاحقة. جوهر تلك التفاعلات كان العلاقة الوثيقة بين شرعية الحُكم في الداخل، والسياسة التي يجري انتهاجها في الإقليم. ومن هنا نفهم ما أشار إليه النحاس من أن دخول الحرب لم يكن سوى انعكاس لطموح الملك فاروق الشخصي. لقد توثقت تلك العلاقة بشدة في ظل الحُكم الناصري الذي اعتبر السياسة الخارجية أحد الأركان الرئيسية لشرعيته.


وفي عقدي الخمسينيات والستينيات جرى التأسيس لمنظومة كاملة تمتزج فيها السياسة الخارجية بشرعية النظام السياسي واستقراره. ويُمكن القول بأن المُفردات والمبادئ التي جرى ترسيخها في هذه الفترة ظلت تمثل الإطار العام للتوجه الخارجي لمصر في الشرق الأوسط. وحتى بعد أن جرى الانقلاب على بعض من هذه المبادئ فيما بعد، فإن تأثيرها كمعيار للحُكم على السياسة الخارجية ظل قائمًا وممتدًا، كما أن أثرها –وهو الأهم- في فكر النخبة المصرية ووعيها وفي توجهات الرأي العام وانطباعاته إزاء القضايا الخارجية لم يخبو، بل ترسخ واستمر.


في خضم العواصف العاتية التي تجتاح الشرق الأوسط اليوم، تبدو السياسة الخارجية المصرية مُقبلة على تغيرات جذرية تتصل بالفرضيات التي تأسست عليها. ويحتاج الأمر لمراجعة شاملة وشُجاعة للأصول التاريخية التي انطلقت منها هذه السياسة، إذ لا مجال لتجديد السياسة الخارجية المصرية من دون إعادة النظر في أصولها ومنطلقاتها المبدئية. السطور السابقة كانت محاولة أولية متواضعة في هذا الاتجاه.