التوقيت الأحد، 28 أبريل 2024
التوقيت 08:32 م , بتوقيت القاهرة

مرور إجباري

إنهم لا ينظرون لك، إنما إلى بعض منك، وكل واحد يرى ما يمكن أن يستثمره فيك، أو يقتطعه منك. ماسح الأحذية يتفحص الناس من أقدامهم  ولا ترتفع عينه إلى الوجوه. لا يهمه الشكل أو الهندام أو دراستك الجامعية، فقط يقيم حذاءك وكم سيأخذ منه من وقت وما سيحصل عليه من مقابل . كذلك تنتهي حياته فوق التراب وتحته.. وصاحب الصالون لا يري منك إلا قطعة مسمطة ذات شعر أشعث، فكل ما ينظر له فروة رأسك وكثافة لحيتك. وتنتهي حياته مع موسى حاد ووجوه دامية ضاحكة أو متجهمة.


كثير منا يعيش ويموت دون أن يرى الناس، ولا يرى حقيقة نفسه.


زوجتي تركت النظر في عيني وتفرّغت للبحث عن أدلة جنائية فوق جواكتي وجيوب قمصاني، عساها تجد شعرة حريمي أو متعلقات أنثوية. والرجل الوحيد الذي نظر لعيني بعمق، أخبرني أني مصاب بالمياه البيضاء! وأحتاج إلى عملية عاجلة. قد كان طبيب العيون الذي ذهبت له.


ورجل الدين ينظر إلي كثافة لحيتي ورأس زوجتي ليصنفني إلى أي فريق أنتمي. ورجل الشرطة يخاطبني دون ان ينظر لي بينما يتفحص صحيفة أحوالي الجنائية. ومنذ سنوات عندما ذهبت للحصول على وظيفة تركوني وظلوا يقرأون اسم الرجل على كارت التوصية الذي أحمله.


مرة ذهبت لأشتري سلاحا ناريا، وأراد التاجر أن يثبت لي قوة أجزاء الأمان التي تغلق الإطلاق، وصوبه إلى رأسي ثم أطلق، فأفلت زمام الأمان ومرت الطلقة من جوار رأسي وأخطأني الموت. وذهل الرجل وأعتذر. وفقدت القدرة على النطق ليومين. فقط أنظر في العيون.


وبينما أقود سيارتي يوما انفصلت مقطورة مسرعة على الطريق وانقلبت بعنف، فمن شدة الموقف ارتبكت ولم أمسك الفرامل، فمررت، وانقلبت المقطورة على السيارة التالية.. ربما الموت لا يحب ان ينظر لي الآن هو الآخر.


الحياة بها عقل يفوق ما نتصور، ويفوق ترتيبات عقولنا المرصودة. والصدفة محض خطوة أصيلة في مخطط كبير لا يفصح عن نفسه للكثيرين. كل إنسان ينال ما خطط له من خير أو شر، وكل إنسان يجلس في مكانه المناسب، والحياة  تقدم نماذج  يومية للعدل، لتطمئن قلوب المرتابين، وتؤخر العدل شيئا لتختبر الصبر في قلوب المؤمنين، وتمحص الأعمال، وتفرز الخبيث من الطيب، وتكشف من يتستر بشعارات زائفة ومن استقر الخير في قلبه رغم الفظائع.


وخُلق الإنسان هلوعا لو مسه الشر جزوعا، وظلوما أنانيا غشوما لو أصابه الخير. ويطغى ويتجبر باقل فتح ونصرة، ويقنط وينهار أمام أقرب فشل.


الله وضع التكاليف وهو يعلم أن الإنسان خلق ضعيفا سريع النسيان متراخي العزم. وقال إن الايمان والصلة بالله وحدهم يقاومون هذا الخلل. والإنسان يعيش رحلة تجاوز مستمرة؛ تجاوز الجسد الفاني إلى الباقيات الصالحات من عمل وصبر وتضحية وعفو. ورغم أننا على يقين من فناء الأرض وزوال الحياة، إلا أن الله حرص على البناء المحكم للأرض بيده، أولا، وبعمل الإنسان ثانيا، ووعد أن القيامة لا تأتي إلا بعد أن تأخذ الأرض أبهى صورة وأعلى زينة. كأنه يقول استمتع بأي فترة زمنية واجعلها على احسن صورة حتى لو كنت على يقين أنها تزول. استمتع باي مكان حتى لو كنت على يقين أنك تغادرة، وأزرع الأمل في كل أرض حتى لو كنت على يقين بفنائها.


لا تقل يوم ويروح لحاله أو بيت ونغادره وتهمل فيهما العمل والبناء، حتى لو فني المبنى فالمعنى باق، ولو غابت الهياكل فالذكرى لا تغيب، والقيمة تبقى من ورائها.


يدفعنا الله أن نعيش كل لحظة ولا نتحجج بالتأقيت أو الزوال. فصاحب الأرض يريد ان يستردها في أبهى زينة، ومسؤولية الإنسان أن يعيد الحق مكتملا بها. حتى لو قرر الصانع أن يفنيه، كي يستبدله بصناعة أخرى ولكن في صورة لا تحمل النقص ولا الصخب والأحقاد .. مثلما تعدم شركات السيارات الموديلات القديمة لتستبدلها بأخرى أكثر رفاهية.. لكن الخالق يردك تسليم نسختك من الحياة في أبهى صورة حتى اللحظة الأخيرة.


أحرِصُ على نظافة بدني وحسن هيئتي ونظام حركاتي ولو لم ألق الناس. ولكن لقاء الحياة يستحق. وأقابل الظالمين بحفاوة وابتسم في وجه الكذابين ولا ألوم أحدا. والحياة أقصر من أن تتحول إلى صراع كي تثبت للناس شيئا بعينه. غدا يعلمون الحقائق. ولو رفضوا التعلم بالكلام فسيتعلمون بالدم. ولو ماتوا عميانا بعثوا عُميا، وهو الخسران الكبير. قال الله (ومن كان في هذه أعمى فهو في الأخرى أعمى وأضل سبيلا).


الأرض لا تنسي، لا شيئ يضيع، والله سيخاطب الناس رجلا رجلا فلن تستطيع الاختباء خلف كتف أحد أو أن تمضي في المجموع. والحديث مع الله يطول. وهناك من لن ينظر له الله ويتركه مهملا في جانب سحيق من الذل. وهناك من أعد الله له كرسيا وثيرا مرتفعا على مقربة منه. الرحلة شاقة والمصير يستحق. ولا يخلف الله الميعاد.