التوقيت السبت، 27 أبريل 2024
التوقيت 03:56 ص , بتوقيت القاهرة

مَن يُشبهنا أكثر: البرادعي أم السيسي؟

يقولون لك إن السبب الأساسي في فشل الدكتور محمد البرادعي في اكتساب ثقة المصريين وحبهم هو عدم معرفته بطباع أهل هذا البلد وأفكارهم. فالرجل يبدو أجنبيًا في كل شيء. قامته الطويلة المنتصبة في البدلة الأنيقة التي تزينها رابطة العنق المحكمة، مع النظارة الأكاديمية الطابع والشارب المنمق، تجعل الرجل أكثر قربًا للسياسيين الخواجات الذين عمل معهم لعقود طويلة. حديثه المتلعثم كمواقفه الغامضة يثير سخرية المصريين القادرين على التحدث بإسهاب لساعات.


سائح سياسي هو كما وصفه الراحل عبدالله كمال، لا يعلم كيف تُطعم القروية أبقارها كما لفت أنظارنا "الدكتور توفيق"، يراهن على الشباب الذين وضعوه في صدارة المشهد ليسخر منه بعضهم في الأحاديث الخاصة التي جعلتها التسريبات عامة. كشفت التسريبات أيضًا عن احتقار فلسفي عميق كان يحمله الرجل للجميع. قصة خُذلان مبهرة من مظاهرات الإعلان الدستوري التي راهن البرادعي فيها على "وطنية الرئيس مرسي"، وحتى عملية فض اعتصام رابعة العدوية التي يبدو وكأنها قد أتت الحائز على جائزة نوبل من حيث يترفع هو أن يتداخل معها. 


كرهه المصريون وأدانوه لنكوصه عند المواجهة والتنكر للحق. بدا الرجل في عيون الناس حريصًا على سمعته أكثر من حرصه على سمعة الوطن. ُنعت بالجبان والخائن والسلبي والعميل. غادر البلاد ليدخل في غيبوبة طويلة من النسيان. غيبوبة لا يخرج منها إلا كل حين وآخر على فترات متباعدة ليطلق تصريحًا أو ينشئ تغريدة تؤكد غيابه عن الواقع. أصبح ــ بإرادته ــ رمزًا للسلبية وإدعاء الفضيلة عند شعب يتطلع لبطل.


السيسي وعلى النقيض من ذلك حبيب الملايين. بدا في زيه العسكري ونظارته الشمسية كبطل آتٍ من بين السحب ليجبر الشمس على الشروق. خلع البدلة العسكرية ليبدو بقامته المتوسطة مثلنا جميعًا. يسهب في الحديث وتتغير ملامحه وفقًا لمشاعره. يغلبه الخجل إذا صفق له الناس أو ذُكر أهلُ بيته. رجل أمضى حياته جنديًا فلا سبيل للتشكيك في نواياه. يخطئ في النحو كعادتنا جميعًا، وتغلبه الحماسة أحيانًا فنترفق به. أليس مثلنا هو بابتسامته البسيطة وبملامحه المعتادة وشعره المفروق من الجانب كعادة أغلب رجال مصر إذا تخطوا الثلاثين؟ ابنٌ بار هو لقيم الحي الشعبي الأصيلة. يعرفنا كما نعرف أنفسنا وبيننا وبينه لغة لا يفهمها غيرُ المصريين. زعيمنا الذي فوضناه ورئيسنا الذي نثق به. 


أي مقارنة بين البرادعي والسيسي ستكون ظالمة للطرفين بل ولا مبرر لها سوى العبث. كيف تقارن رجلاً مكروهًا برجلٍ يعشقه الناس "لله في الله". الأول يدعو الناسُ عليه كعدو كلما ذُكرَ اسمُه، والثاني يدعون له بالنصر على أعدائه في كل لحظة. بالطبع أي مقارنة تتعلق بمدى تعبير الرجلين عن طبيعة هذا الشعب ستصب في مصلحة السيسي، طالما تُعقد هذه المقارنة دوماً من مقاعد المتفرجين.


ماذا لو بدلنا الأماكن؟


نحن نجلس في قاعة المتفرجين ونشاهد الرجلين يلعبان دوريهما كغيرهما من الرجال الذين حُكم عليهم أن يقفوا على خشبة مسرح التاريخ. ماذا لو اعتلينا نحن الخشبة وأجلسنا البرادعي والسيسي في مقاعد المتفرجين؟ مَن حينها مِن الرجلين سيرى طبيعته متجسدة أكثر على المسرح؟ من منهما سيجد نفسه أكثر توافقًا مع ما يدور؟ أيهما سيصيح من داخله: نعم.. أنا واحد من هؤلاء.. أنا أُشبه هؤلاء..؟!


من يشبهنا أكثر؟.. دعك من المواقف السياسية أو الوطنية.. دعك من المظهر الخارجي وطريقة الحديث ونمط الملابس.. دعك من كل ما هو متغير ووقتي.. دعك من شعارات السَلَس التأييدي وعبارات الإدانة اللا إرادية.. دعك حتى من المشاعر القادرة على تضليل أكثر العقول نباهة.. السؤال الذي قد يبدو نزقًا ومرواغًا وربما تافهًا أو متذاكيًا لا يتعلق بالرجلين بقدر ما يتعلق بنا.. جوهرنا في مقابل جوهر الرجلين.. نظرتنا للحياة والإرادة والعمل والديمقراطية.. قدرتنا على توجيه النقد وتحمله.. مرونتنا في التعلم والاعتراف بنقص الخبرة.. إستعدادنا لمد اليد في القَذَر مقابل الاكتفاء بإبداء التقزز. 


من يشبهنا أكثر؟.. هذا الذي لا يبالي بصورته أو هيبته في سبيل تحقيق هدفه، أم ذاك الذي يكتفي بمصمصة الشفاه وصب اللعنات على كل من جاء وراح كالجالسات بلا عمل على قارعة الطريق؟ هذا الذي يصطدم ويلتحم ويخطىء ويصيب ولا يجد غضاضةً في التراجع، أم ذاك الذي لا هم له سوى أن يبدو حكيم عصره وزمانه؟ هذا الذي يعرف أن ما هو متاحٌ له من موارد وامكانيات ضئيل وقليل ومع ذلك يحاول تعظيم ما لديه قدر استطاعته، أم ذاك الذي ينتظر حتى يُتاح له كل شيء قبل أن يتعطف ويفكر في بدء العمل؟ هذا الذي يقدس الوقت وفي ذات اللحظة يصارعه أم ذاك الذي يهدره مهدرًا معه كل الفرص؟ هذا الذي يدعو في كل مناسبة للتكاتف والتوافق أم ذاك الذي ينتهز كل فرصة للتحقير من المخالفين له والحط من شأنهم؟ هذا الذي يقول رأيه بصراحة في المواقف دون محاولة لأن يبدو ذكيًا أو حكيمًا أم ذاك الذي يلجأ للأساليب الغامضة حتى لا يُحسب عليه موقفٌ يضطر لاحقاً لتغييره؟ 


من يشبهنا أكثر؟.. هذا الذي يدرك أن الحياة ليست سوى محاولات يتبعها إخفاقات ثم تلي الإخفاقات محاولات وصولاً للحظة حاسمة، أم ذاك الذي حسم أمره بعدم المحاولة خوفًا من الإخفاق؟ هذا الذي قال إن سفينة الوطن على وشك أن تغرق وكأنه أتى بآية، أم ذاك الذي يصر على إدارة الدفة بتفاؤل رغم أنه (وكلنا يعلم) لا يملك خرائط دقيقة ولا يملك ما يكفيه من المؤن والمجاديف والبحارة المستعدين للمغامرة؟ 


من نسخر منه في أعماقنا أكثر؟.. السخرية لا تعني إطلاق النكات الجارحة والمهينة على شخصٍ ما، بقدر ما تعني تجاهل ما يدعو له وما يمثله من قيم. نصفق لكل ما يقوله السيسي ونتبارى في الدفاع عن كل ما يفعله وتبريره.. لكن عندما يتعلق الأمر بنا وبما علينا نحن أن نفعله، نتجاهل دعواته للعمل والتقشف واحترام الوقت والتكاتف وعدم الانسياق وراء ما يُعطل. ننحاز فقط لمن يتشابهون معنا في الآراء ونهاجم كل من لا يتوافق مع رؤيتنا ونحط من شأنه ونتعالى عليه.. نكره المكاشفة التي يدعونا لها السيسي ونعشق التعالي الذي يخاطبنا به البرادعي.. لم إذن نكره البرادعي ونحب السيسي؟.. من المصري الصميم ومن الخواجة؟ أي الرجلين أكثر تعبيرًا عن عقدة الخواجة بداخلنا؟ هذا الخواجة الذي نتطلع له دوماً ونُعلن عن إعجابنا باجتهاده، لكن دون أن نحاول أن نبذل الجهد مثله.


التساؤلات السابقة تحمل في طياتها نقداً وتجريحاً وإدانةً للقيم السائدة داخلنا. القيم التي ندينها وفي ذات اللحظة نمارسها بلا تحفظ. تلك القيم التي لا ينكر كاتب السطور أنها متغلغلة بداخله كما هي متغلغلة بداخل من يلقي عليهم نقده وتجريحه. كذلك لا ينكر كاتب السطور أن المقارنة السابقة تُعد من جانبه انحيازًا ودعمًا وتأييدًا وتطبيلاً (إن شئت) لكل من يقف على خشبة التاريخ محاولاً أن يُتقن دوره، مهما كان هذا الدور محاطًا بالعيوب والنقائص.. يكفيه شرف المحاولة والعمل الدؤوب أمام مشاهدين لا يجيدون سوى إطلاق الصفير إعجابًا أو استهجانًا.