التوقيت الخميس، 28 مارس 2024
التوقيت 07:11 م , بتوقيت القاهرة

وإن ضرب ظهرك

قد يبدو من نظرة مُتعجلة وساذجة للتاريخ الإسلامي، أنه تاريخ يحض على الطاعة العمياء لولي الأمر ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك كما هو النص الشهير، وتكريس الاستبداد والظلم والاستيلاء. وحرمان الشعوب من التعبير عن رأيها.


ولكن بنظرة فاحصة نجد أن أكثر شيء في القرون الثلاثة الأولى في الإسلام منذ الحكم الرشيد، وحتى حكم بني أمية وبني العباس المستبد، نجده تاريخ الثورات والحراك الشعبي بامتياز.


فالمشكلة السياسية التي حدثت في عهد عثمان بن عفان كانت نتيجة ثورة شعبية من مسلمي المدائن الذين احتجوا على تصرفاته التي حابى بها أهله في الأموال والولايات، فما كان منهم إلا التجمهر أمام بيته ومنعه الحركة. ويثبت التاريخ أن قطاعا واسعا من الصحابة كان يوافق على هذه الثورة.


واستمر الأمر في عهد بني أمية، حيث ثورة "عبد الله بن الأشعث" ضد عبد الملك بن مروان، وثورة "زيد بن علي" ضد هشام بن عبد الملك.


ويمتد الأمر حتى بني العباس فنجد ثورة "محمد بن النفس الزكية" ضد أبو جعفر المنصور والخليفة أبو محمد السفاح، وكذلك ثورة المدينة التي قادها "محمد بن عبد الله بن الحسن".


ونجد أن أئمة كبار شاركوا في المعارضة للسُلطة مثل الإمام "الحسن البصري"، التابعي الذي تربى في بيت النبوة، والذي عارض الحجاج الثقفي، ولاحقته السلطة حتى فر هاربا، وماتت ابنته فلم يحضر جنازتها.


واحتج البعض ضد الحسن البصري أن ذكره لأئمة بني أمية يعد غيبة، فقال إن أعراض الحكام المستبدون والظلمة مباحة طالما أنهم أهل فسق واستيلاء.


والقرآن الكريم يُثني على أهل الإيمان الذين استجابوا لربهم (وأمرهم شورى بينهم)، فهم ليسوا أهل استبداد وطغيان وكبر، ويبحثون عن المصلحة والرشاد فيما بينهم بالحوار وتبادل الرأي. بل وجه القرآن نبيه المختار حين يعقد أمرا أن (وشاورهم في الأمر) رغم أنه نبي يتلقى الوحي من السماء وهو أغنى الناس عن مشورة البشر.


وفي غزوة الخندق حين عقد اتفاقية مع مشركي العرب أن يصالحهم على ثلث ثمر المدينة للانصراف عن حصار المدينة وترك قتال المسلمين، جعله عقدا معلقا لحين استشارة أهل الرأي داخل المدينة. وانصاع النبي لرأيهم وترك رأيه.


ولكن الإسلام يميز بين عدة نقاط..


أولا: حق الشورى وتداول الرأي في كل مسألة.. وبين إعطاء بعض الصلاحيات المنفردة للحاكم بوصفه الحاكم السياسي الأعلى الذي قد يلجأ لبعض القرارات الاستثنائية واجبة الطاعة وقت الضرورة.


ثانيا، فرضية الطاعة لأوامر الحاكم، الذي يمثل القانون والنظام العام والاستقرار السياسي والاجتماعي في الدولة، حتى لا يصير مجتمعا منفلتا أو فوضويا، تنتشر فيه الجريمة والقتل والتخريب، وهم أول ما يضر المدنية.. وبين حق الشعب في تقويم الحاكم ورد كلمته والاحتجاج على تصرفاته لو خرجت إلى المفسدة والظلم.


وهناك من قال إنه لو لم يستجب الحاكم إلى النصح واستمرأ الظلم والفساد، فيجب الخروج عليه ولو كان خروجا مسلحا، وهو رأي المعتزلة.


وهناك من قال بعدم الخروج المسلح وطاعة الحاكم المتغلب حتى لا تحدث فوضى أكبر، مع بقاء الحق في المعارضة واستمرار جهاد الكلمة، وهو قول الأشاعرة "أهل السنة".


والقرآن الكريم يعقد هذا التوازن..


فالأية 59 من سورة النساء تقول (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، والآية هنا واضحة في الأمر بطاعة ولي الأمر. "منكم" وليس "عليكم" واللفظة تعطي صفة اختيارية للحاكم، فالمجتمع هو الذي أفرزه واختاره وليس هو الذي استبد برقابهم.


ولكن الآية 58 من ذات السورة تضع مسؤولية هذا الحكام (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).


فتكون أسباب الطاعة، وطبيعة نظام الحكم، وتكليفات الحاكم، أن يلتزم بالأمانة والعدل. والأمانة هي مسؤولية اقتصادية ومالية لإدارة الموارد وتوزيع الثروة، ثم الحكم بالعدل والمساواة ودولة القانون. وهما وظيفة الدولة الحديثة كما تنص أدبيات علم السياسة. ولو التزم الحاكم بذلك، تنطبق الآية 59 التي تلزم المحكومين بطاعته واحترامه وتقدير منصبه، وعدم الخروج عليه والانفلات إلى الفوضى والأهواء الشخصية والتخريب.


فالإسلام قبل أن يأمر الشعب بالطاعة والنظام والتحضر، يأمر الحاكم بالأمانة والعدل والشورى.


وفي ضوء هذا يمكن أن نرى باقي القضية.. سنجد نصوصا في السنة تميل إلى كفة الحاكم مثل قول النبي (ص) "أطع الحاكم ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك" و"اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي رأسه كزبيبة".


وسنجد نصوصا أخرى تميل إلى كفة المعارضة، يقول الرسول (ص) "خير الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله" و"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" و"إذا رأيتم الظالم فلم تأخذوا على يده يوشك الله أن يعمكم بعذاب من عنده" و"لتأخذن على يد الظالم وتجبرونه على الحق أو ليضربن الله على قلوب بعضكم ثم تدعون فلا يستجاب لكم".


وهنا يمكن تسكين كل نص في مساحته الواقعية والسياسية التي تليق به.. طاعة الحاكم، الذي يعني النظام العام والقانون السائد، واجبة طالما كان يحكم بالعدل ويؤدي الأمانات ولا ينفرد بالقرار ويستشير أهل العلم "كما قال أبو حامد الغزالي".


 وقول الرسول ولو أخذ مالك، يمكن استيعابها في ظل القانون الحديث الذي قد يلجأ لنزع ملكيات خاصة من أجل المصلحة العامة. فالدولة لو بنت طريقا أو كوبري، وكان ضمن حيازة أو ملكية أفراد فهي تستولي عليها وتلجأ لتعويضه فيما بعد.


فالحديث ينزع الشخصنة عن القضية ويغلّب المصلحة العامة للدولة على مصالح فردية لأشخاص، فالإنسان يستطيع الحفاظ على مدينته ودولته ويحترم النظام، حتى لو أصابته بعض الأضرار في مصلحته الخاصة. وهو أعلى شعور بالانتماء وقهر الأنانية والعشوائية والجشع التي هي من أكثر الصفات المتجذرة في النفس البشرية، والتي تؤدي إلى كافة الشرور في حياتنا الخاصة والعامة، والتي لم تستطع المادية الحديثة في استئصالها أو الحد من غلوائها بل تعمد إلى تغذيتها.


كذلك الحديث الخاص بالسمع والطاعة ولو تأمر عليكم عبد رأسه كزبيبة، أي رأسه أسود كحبة زبيب.. إنما يقصد منه احترام المنصب، حتى لو تولاه رجل لا يبدو عليه المهابة والفخامة للارستقراطية الحاكمة قديما. وهو يضرب ضربا عميقا في النفس البشرية ليعلمها المساواة والحياد وكسر الظلم والطبقية، وعدم الحكم على الناس بمظاهرهم، وهو يعطي العبيد الحق في تولي أعلى سلطة سياسية ممكنة وهي رئاسة الدولة، وقت أن كانت النفوس غير مؤهلة لقبول المساواة مع هؤلاء. وكان من حق السيد الأوروبي حق قتل عبده دون أن يقدم للمحاكمة.


 فالحرية لو تحققت دون مساواة تصير غطاء خادعا لتكريس المزيد من الظلم. وها نحن نرى في مجتمعنا ملايين الأحرار لكنهم يعانون الظلم والجوع والاضطهاد، فلم تفدهم الحرية في شيء. بينما الإسلام أقحم العبيد في الحياة العامة والممارسة السياسية في أعلى صورها حتى أعطاهم الحق في الكرامة والمساواة، وبذلك تتحقق الحرية ضمنا، لكنها هنا حرية كاملة غير منقوصة، يستمتع بها الفرد ويمارسها المجتمع.


وللحديث بقية..