التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 05:48 ص , بتوقيت القاهرة

الطريق إلى عاصفة الحزم: 2- سوريا

سنعود قليلا إلى الوراء، إلى تاريخ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، لنرى صورة عامة للوضع "السياسي الطائفي" في الجوار الإيراني.


العراق دولة أغلبيتها من الشيعة، وفيها أقلية سنية وأخرى كردية. تحت لواء حزب البعث يحكمها أشخاص ينتمون إلى هذه الأقلية السنية.


أما سوريا فدولة أغلبيتها من السنة، وفيها أقلية علوية وأقلية كردية. تحت لواء حزب البعث يحكمها أشخاص ينتمون إلى هذه الأقلية العلوية.


الخلاف التاريخي بين العراق وسوريا يتعدى المسميات والتوجهات، من أول الحيرة والغساسنة، مرورا بالأمويين والعباسيين، من موالي الفرس وموالي الروم، مرورا بالشيعة والسنة، وصولا إلى البعث العراقي والبعث السوري.


العراق يخوض الحرب (من 1980 إلى 1988) مدعوما من دول الخليج، على أساس أنه حامي البوابة الشرقية للعالم العربي. وسوريا متحالفة سياسيا مع إيران.


ينعكس الصراع بعد ذلك في لبنان الغارق بالفعل في حرب أهلية. العراق، لاحقا، يدعم العماد ميشيل عون، قائد الجيش اللبناني، وسوريا تدعم "القوى الوطنية" الثورية (الحزب الشيوعي وحزب جنبلاط التقدمي الاشتراكي وحركة أمل الشيعية)، وإيران تدعم حزب الله الشيعي. هذا ليس وصفا تفصيليا، إذ تنقلب التحالفات وتتغير وتتبدل. كما أن التفصيل ليس موضوعنا. سنكتفي بهذه الإشارة السريعة لكي نفهم ما حدث.


كانت سوريا موجودة في لبنان بقرار عربي. ولذلك تعتبر نفسها المدافعة عن البعد "الإقليمي" الوطني، في مواجهة من سمتهم بـ"الانعزاليين" الموارنة، الذين كانوا في الواقع يريدون استقلال القرار اللبناني عن هذا المحيط الذي حملهم بدءا من سنة 1958 عبء اللاجئين الفلسطينيين، ثم يحملهم - في أواسط السبعينيات ثم بدايات الثمانينيات - عبء "المقاومة الفلسطينية".


قاتلت إيران العراق.


زاحمت إيرانُ سوريا بقوة في لبنان، ثم توصلت معها إلى تفاهمات، ظهرت نتيجتها في اتفاق الطائف (أواخر 1989) الذي وضع حدا للحرب الأهلية اللبنانية. والذي كان - ببساطة - توزيعا للقوة السياسية داخل لبنان بين ثلاث قوى. إيران ممثلة في حزب الله، الميليشيا الوحيدة التي احتفظت بقوتها العسكرية. السعودية ممثلة في النفوذ السني للزعيم الراحل رفيق الحريري. وسوريا باستمرار تواجد جيشها داخل لبنان، وبإدارتها الفعلية للملف السياسي.


كل ذلك على حساب الموارنة، حيث نُفي قائد الجيش، العماد ميشيل عون، إلى فرنسا. بينما سُجن زعيمهم البارز الآخر، سمير جعجع، رغم موافقته على اتفاق الطائف، بسبب اعتراضه على حجم التدخل السوري في لبنان. هذا جوهر الخلاف، بغض النظر عما قيل ويقال. وشُوِّه الموارنة في الإعلام، بين الجمهور المسلم المستعد للتعصب ضدهم.


لماذا أتحدث كل هذا عن لبنان وأنا أتحدث عن عاصفة الحزم؟


لقد كان ما حدث في لبنان، في حقيقته، تسوية إقليمية، وطائفية، وليس مجرد تسوية للنزاع اللبناني الداخلي. تفاهمات حول أنصبة دول إقليمية، منعكسة في تفاهمات حول حظوظ الطوائف التي ترعاها تلك الدول. باستثناء سوريا التي اعتبرت نفسها فوق كل الطوائف. ليس تماما طبعا كما سيظهر لاحقا. الطائفية لم تغب أبدا عن السياسة في هذه المنطقة.


تعاملت سوريا مع الموارنة في تلك الفترة، بعد اتفاق الطائف، وكأنهم قوة غير موجودة من أساسه. تختار بالنيابة عنهم رئيس الجمهورية (رمز النفوذ الماروني) وقائد الجيش.


وتعاملت مع السنة بتفاهمات مع السعودية. انعكس في وفاقات وشقاقات مع المغدور رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. إن توافقا رأس الوزراء، وإن اختلفا جاءت بمنافسه السني عمر كرامي من طرابلس أو بغيره من الزعامات البيروتية.


وحدها الطائفة الشيعية قابضة على ما تريد من سلطة. سواء كان حزب الله الإيراني حائز السلاح، أو حركة أمل الشيعية، بزعامة نبيه بري، الذي طال جلوسه على كرسي رئاسة البرلمان (رمز النفوذ الشيعي)، ولم يحركه عنه أحد.


هل فهمنا ما حدث في يوم فالانتاين من سنة 2005؟ هل فهمنا ماذا يعني اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري؟ هل فهمنا معناه الإقليمي؟


لقد اعتاد النظام البعثي السوري الذي تقوده أسرة الأسد العلوية نسف الرؤساء الموارنة إن تجرؤوا عليه في قرار. لأن الموارنة لا ظهير لهم في عالم يخلط بين العروبة والإسلام، ويكره المخالفين. ولم يقترب طبعا من الشيعة الذين تناصرهم إيران. لكنه الآن ينسف رمز النفوذ السني، حليف السعودية. ليس هذا فحسب، بل كان هذا تاليا وسابقا لسلسلة من الاغتيالات عارضت كلها النفوذ السوري في لبنان، وهي كانت تعارض في الحقيقة النفوذ الإيراني السوري في لبنان. هذا النفوذ الذي تجاوز ما اتفق عليه في الطائف بمراحل.


طيب لماذا؟ قلنا إن النفوذ السوري في لبنان استمر من 1990 على هذا المنوال. لماذا بدأت معارضته بهذا الشكل في الألفية؟ لماذا بعد 2003 بالذات؟


بسيطة. لأن هذه سنة الغزو الأمريكي للعراق، أي سنة إزاحة إحدى الترتيبات الإقليمية التي وازنت العلاقة بين إيران وسوريا والسعودية. هي نفس السنة التي أطلق فيها العاهل الأردني الملك عبد الله تحذيره الشهير من الهلال الشيعي الذي يمتد من إيران إلى العراق مرورا بسوريا إلى لبنان. تحذيرا واجه معارضة من أصحاب الشعارات، الذين لا يلتفتون إلى الأمر الواقع، ولا يفهمون البعد الطائفي الذي تتحرك به إيران. وجرت إليه سوريا. والذي - مرة أخرى - لم يغب عن لبنان أبدا من كل الأطراف.


لا يبتعد هذا كثيرا عن رؤية استراتيجية أمريكية تلت الهجوم الإرهابي (السني كما برز في الإعلام الغربي) على نيويورك وواشنطن. هذه الرؤية جعلتها، بعد أن انتهت من معاقبة القاعدة وطالبان في أفغانستان، تتحول إلى العراق، وتسقط النظام بمعاونة إيرانية، كان فيها مشهد من كلاسكيكيات الكوميديا في السياسة. حيث حزب الله الإيراني اللبناني (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في لبنان) يخرج في مظاهرة احتجاج على الغزو، مرتديا أكفانا في حركة مسرحية لا معنى لها على أرض الواقع ولن تكلفه شيئا. بينما (حزب الله) الإيراني العراقي، المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، يقاتل دعما للأمريكيين.


في الشهر التالي لاغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، يخرج اللبنانيون في مظاهرات 14 مارس آذار، 2005، ثم في شهر أبريل يخرج الجيش السوري من لبنان.



في العام التالي، 2006، يحاول حزب الله خلق سياق لعودة السوريين، وإحراج القوى الإقليمية، وإحياء مبرر حيازته للسلاح، بافتعال حرب مع إسرائيل. لكن خطته رغم كل الدعاية تنتهي بهزيمة سياسية وعسكرية، تعيد الوضع في جنوب لبنان إلى نزع للسلاح جنوب نهر الليطاني.


يهدي حزب الله "نصره الإلهي" إلى سوريا. ويمعن الرئيس السوري - قليل الخبرة - في الجرح، فيخطب واصفا الزعماء العرب بأشباه الرجال. مادحا حزب الله وإيران.



لقد صار الشقاق مع سوريا حاضرا، ومرشحا فقط لمرحلة الصدام المباشر. ولقد صفت سوريا - المحكومة بأقلية علوية - نفسها مع إيران وحزب الله.


في 2007 تحاول سوريا مرة أخرى تفجير الوضع في لبنان عن طريق طرابلس، بفصائل سنية وفلسطينية تابعة لها، لكنها تفشل. في مايو/أيار 2008 يخرج حزب الله عن طوره ويعتدي مباشرة على حلفاء السعودية وقتها، على وليد جنبلاط والدروز في الجبل، وعلى سنة بيروت، إلى درجة وصلت لإخراج الرجال السنة من بيوتهم ورصهم في الشوارع وتعمد إهانتهم كأنه جيش احتلال. تلك مأساة نجح الإعلام الذي تسيطر عليه التيارات اليسارية والإيرانية في لبنان في التعمية عليه.


كل هذا أدى إلى ما وصلنا إليه في سوريا الآن، من صراع مذهبي دموي مرشح للزيادة. كل هذا جعل السعودية متشددة في إسقاط النظام السوري. بينما الموقف الأمريكي شبيه بموقف أمريكا العام. وملخصه: لماذا لا أحدثُ توازن قوى ينهك فيه الشيعة والسنة، والسنة والشيعة، دولا وجماعات، بعضهم البعض، وينشغلون فيه ببعضهم البعض؟! نفوذ إيراني يوازي النفوذ الخليجي. وجماعات سنية توازي الجماعات الشيعية. بحيث يكون ذلك بميزان دقيق غير مسموح بالتلاعب به، ولا مده إلى خارج الأطر التي تستطيع أمريكا ضبطها. في ضوء هذا سنفهم الوضوح الأمريكي في معارضة محاولة الحوثيين السيطرة على اليمن، وسنفهم لماذا اليمن خروج عن الخطوط الحمراء…


بدأنا بسوريا ثم انتهى المقال بأمريكا. أمريكا أمريكا أمريكا. لماذا إذن لا نتحدث عن أمريكا، في الطريق إلى عاصفة الحزم؟ غدا.