التوقيت السبت، 27 أبريل 2024
التوقيت 07:56 م , بتوقيت القاهرة

مقال مش عن إسلام بحيري

 تنقية التراث الإنجليزي


ربما لا يدرك البعض أن التراث "الإنجليزي" في أزمة حضارية كبرى تحتاج أن يجند كل مفكريه للخروج منها، وهي قضية تنقية هذا التراث مما يهدد الحياة المعاصرة!


يحكي كتاب قصة الحضارة، أنه في القرن الـ 16 الميلادي، زادت أعمال السحر والشعوذة والإيمان بالخرافات في إسكتلندا بشكل لا يمكن مقاومته، وصار الناس أسرى القوى الخفية وكرامات الأولياء والقوة الكامنة في المعادن، حتى اعتقد الناس أن السحرة هم من يهبون الموت والحياة والسعادة والتعاسة والحب والكراهية.


وهنا اضطرت الكنيسة إلى استصدار قوانين رادعة ومتعسفة، بالتعاون مع السلطة السياسية، تجرم الالتجاء للسحر، ومعاقبة كل من يتورط في أعمال الشعوذة بالحرق، حتى أنهم حرقوا في وقت قصير 8 آلاف امرأة، بالاتهام ودون تحقيق كاف، في مدينة لا يجاوز عدد سكانها المليون.


الكارثة كانت في وليام هارفي، وهو عالم إنجليزي كبير، يعد من أنبياء الطب ومكتشف الدورة الدموية ومؤسس لعلم وظائف الأعضاء. رجل يؤمن بالعلم والتجربة والبحث المتجرد، لكنَه وللأسف كان يؤمن في أعمال الشعوذة!


وهنا يدق السؤال، هل نلغي كتب التراث الإنجليزي ونحذف وليام هارفي من مقررات التاريخ لأن له سقطة عظمى تطعن في حياده العلمي ومنهجه العقلي، أم يظل هارفي عالمًا كبيرًا حقق إنجازًا بشريًا مهمًا رغم سقطته العقلية والأخلاقية التي لا تغتفر..!


هل نأخذ من هارفي العلم أم الشعوذة.. وكلاهما تراث.


الإنسان كائن معقد، ويجمع المتناقضات، ويصعب الحكم عليه من جانب واحد، أو في موقف مستقل عن باقي حياته، وهو يحمل المنطقية والعقلانية مع العشوائية والجهالة في ذات الوقت. وكذلك التاريخ، فهو تاريخ هؤلاء البشر، ويحمل ذات التركيبة، المجد والعظمة والإنجازات، كما يحمل المذلة والتخلف والقتل.

السؤال، أي تاريخ تشعر أنك تنتمي له.. وأي صفحة تستعيرها من كتب التراث لتعلقها على لوحة حاضرك وتجعلها واقعا ملموسا.. النقطة المهمة ليست فيما يتحدث به التاريخ، ولكن، لماذا يقرأ الناس هذا التاريخ، وعلى أي شيء يتوقفون عنده. وهل عجز الحاضر عن مواجهة التحديات فصرنا أسرى ماضينا..!


العقل الغربي ترك تاريخه كما هو بسقطاته وعيوبه، ومراحل تطوره، حتى يتعلم الانسان من التجربة والخطأ. ويدرس حال البشر في عصرهم السالف، وهم يدركون أن الناس قد تحررت من هذا الماضي، فهو غير ملزم لهم، وهو ليس بحجة على حاضرهم.


ويثقون في النضج البشري، وفي مقدرة الإنسان الطبيعي، غير المختل أو المهووس، في التمييز بين تصرفات البشر وأخبارهم الواردة في كتب التاريخ.


ولو تساءلنا الآن، هل حرق الإسكتلنديين لـ 8 آلاف امرأة يعد عملا متحضرا؟ حتى لو تورطوا في أعمال السحر، أم أن القانون الحديث صار مختلفا..!


وهل يحكم على الإنجليز أنهم متخلفون بواقعهم وحاضرهم أم بما فعلوه في ماضيهم..؟ واي شيء أكثر تأثيرا في هذا الواقع، هل هم رجال السياسة والقانون وأساتذة الجامعة والعلماء، أم صفحات الماضي العتيق..!
لماذا نتحجج بالماضي إذن.


وهل يجب إلغاء هذه الصفحة من كتب التراث مخافة أن يقوم مجنون آخر بحرق الناس أحياء استنادا لكتاب قصة الحضارة..! هل ساعتها يصير إنسانًا طبيعيًا..؟ وهل لو أراد الحرق سيمنعه ما قاله التراث..!


هل المشكلة مشكلة كتب التراث الدينية، أم أنها مشكلة دول متخلفة في حاضنة اجتماعية كبرى، وقعت في فشل اقتصادي وعلمي وتنموي لسنوات طويلة..!


كان قساوسة الكنيسة البروتستانتية منذ أربعة قرون في اسكتلندا، يزعمون أنهم يتلقون الوحي من الله، وأنهم معصومون من الخطأ، وفرضوا حضور الصلاة في الكنيسة كما فرضوا عقوبات بدنية لبعض الخطايا، وصعقوا بالفحش والفجور في المسرح الإنجليزي فسعوا إلى تحريم التمثيل المسرحي.


ورغم تلك الخطايا الكبرى التي مارستها الكنيسة، إلا أنها كانت أكثر النظم ديمقراطية في عصرها، فكان قسيسو الدوائر والأقسام يتم اختيارهم بعد موافقة شعبية لجمهور المؤمنين.


وأرعبت هذه الإجراءات الديمقراطية التي مارسها رجال الكنيسة، رجال البرلمان الارستقراطي، الذين لا يؤمنون بحق الشعب في الاختيار وأنهم أكبر من أن يتم التصويت عليهم من قبل هؤلاء الرعاع.


واضطرب الملك أيضًا من هذه الإجراءات، والذي كان يكرس لصورة مقدسة في توليه، وأنه مفوض من قبل الرب وممسوح بالزيت مثل السيد المسيح. رغم معارضة الكنيسة البروتستانتية لهذا التصور.


نعود لذات النقطة.. هل نلغي الجانب السلبي من تراث الكنيسة القائم على القمع والإرهاب، أم نبقي على الممارسات الديمقراطية المبكرة التي أثرت إيجابا في تفويض الشعوب في انتخاب حكامها..؟


وهل الانحراف والخطأ يرد في حق رجال الدين فقط.؟ ها هي الارستقراطية الحاكمة في بريطانيا، وهي أعلى طبقة من حيث التعلم والرقي، لا تؤمن بالمساواة وتضع نفسها قمعا على رقاب الناس.


هل نلغي تراث العالم لأن بعض المعاتيه قد يقلب صفحة إلى الوراء ويريد استعادة الموتى. والموتى كما يعلم الناس لا يعودون، وإن عادوا فهم يتركون أجسادهم المتحللة في التراب، ويأتون في صورة أشباح لا تثير إلا الخوف والهلاوس.


ويثور السؤال، هل كان هذا التراث حجر عثرة أمام تقدم الإنجليز، وهل اضطروا إلى محوه أولا قبل أن يحققوا أي نهضة، خاصة أن الإنجليز ارتكبوا أبشع انواع الجرائم من قتل وتخريب ونهب في عصر الاحتلال، رغم أن بريطانيا كانت تحقق تقدما علميا كبيرا، وكانت تزعم أنها مهد الحرية والديمقراطية.


ومنذ مائة سنة فقط كان حق التصويت في بريطانيا لا يحزه سوى 2% من الشعب، وكانت المرأة محرومة منه، بل كانت محرومة عمليا من حق التملك أو التصرف في أموالها. وكان أحد اللوردات يقول: "أشعر بالعار لانتمائي لامرأة ولدتني!" وكانت الملكة تنظر للسيدات اللاتي يناضلن من أجل حقوقهن السياسية على أنهن ساقطات.


معارك التراث يا صديقي، هي معارك وهمية، زائفة، يخوضها من لا يملك مشروعا حقيقيا لواقعه، أو يريد أن يقوم بشو إعلامي ليعوض نقصا ما لديه، أو من يريد التمويه على تحديات أكبر في السياسة والادارة.


بذات التراث الديني والفقهي عاش المسلمون في عصور سابقة يمجدون الفن والموسيقى ويصنعون الألحان، وترجموا الفلسفة اليونانية وبرعوا فيها، وصنعوا بدايات علم الفلك والفيزياء والتشريح، وكانت المرأة فيه تدير القصر الحاكم مثل زبيدة والخيزران، بل ووصلت إلى سدة الحكم مثل أروى في اليمن وشجر الدر في مصر.
وعاش في المنطقة الإسلامية لعدة قرون أكثر من 3 ملايين يهودي ينعمون بحرية الاعتقاد والتملك ويشغلون مناصب مؤثرة في الدولة.


وكان الحكم الإسلامي في صقلية، جنوب إيطاليا، في القرن العاشر الميلادي نموذجا للتحضر  الإنساني حتى حلم الأوروبيون بالهجرة إليه وترك التخلف الذي يعيشون فيه!


الماضي ليس دليلا على شيء، وخلال خمسين سنة فقط يتبدل حال الشعوب وتتغير مسارات الدول، ومن يحتج بالماضي لإثبات التخلف أو التحضر إنما هو "سلفي" مهما حاول أن يبدو مستنيرا، وهو بالأساس يهرب من مسؤولية الحاضر.