التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 04:58 م , بتوقيت القاهرة

بروفايل| أول نقيب للصحفيين.. أغلقت جريدته وحاكمه عبدالناصر

في الوقت الذي لم تنشر أي صحيفة مصرية، أخبارا بشأن الرحلة الأولى لمنطاد القنص والاستطلاع "زيبلن" الألماني، التي تابعها العالم في أثناء الحرب العالمية الأولى، كان الصحفي الشاب بجريدة الأهرام، محمود أبو الفتح، ضمن ثلاث صحفيين فقط شاركوا في الرحلة، ليقدم بذلك انفرادا لم يسبقه فيه أحد.


وبعد أسابيع قليلة جاء انفراده الصحفي التالي، ليتصدر الصفحة الأولى لجريدة الأهرام، وهو تغطيته لاكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، بوداي الملوك بالأقصر.


وقبيل اندلاع ثورة 1919، اقترح على سعد زغلول، الذي كان مناصرا له منذ طفولته، أن يشرح الأوضاع في مصر باللغة الإنجليزية و الفرنسية، ويرسلها للصحف الأجنبية، ويتولى هو نشرها في "الأهرام" أيضا، للرد على ما ينشروه من أكاذيب، فتحمس سعد زغلول للفكرة وطالبه بتنفيذها على الفور. 


وفي الشهر ذاته، انفرد "أبو الفتح" بإجراء حديث مطول مع اللورد ألنبي، أنكر خلاله كل حقوق مصر، فأثار هذا الحديث ردود أفعال واسعة، ثم سافر إلى أوروبا مستشارا إعلاميا للوفد المصري، لتغطية أخبار مفاوضات الوفد في لندن.


ويروى عن تلك الرحلة:
"الأهرام كانت ترسل لي من المال ما يكاد يكفي الغذاء والتنقلات والبرقيات، لذا اضطررت أن أنام في محطة سكة حديد لندن، بعد أن استأذنت السلطات، وما أن نشرت إحدى المجلات هذا الخبر حتى باع أبي أحد فدادينه الاثنى عشر في قرية الشهداء بمديرية المنوفية وأرسل لي ثمن الفدان". 


ألف "أبو الفتح" بعد عودته من هذه الرحلة كتابا بعنوان "المسألة المصرية والوفد"، طلبه جمال عبدالناصر فيما بعد، لقراءته أثناء مفاوضاته مع الإنجليز قبل توقيع المعاهدة معهم.


إنجازات حققها في سنوات قليلة، قضاها بجريدة الأهرام، بعد تركه العمل بجريدة وادي النيل، أهلته لأن يتولى رئاسة التحرير بعد وفاة داود بركات، لكن أصحاب الجريدة كانوا ضد رئاسة المصريين لتحرير جريدتهم، فعينوا أنطون الجميل رئيسا للتحرير، ما جعل "أبو الفتح" يفكر في إنشاء جريدة جديدة.


"هذا هو عصر الاختزال والسرعة والوصول إلى الهدف من أقصر طريق، عصر الأخبار ثم الأخبار ثم الأخبار ودائما الأخبار، فلن تجدوا في "المصري" صفحة كاملة عن "أيهما أفضل: البحتري أم أبو تمام؟"، كلاهما عندنا رجل فاضل نرضى أن نقرأ على روحه الفاتحة، ولكننا لن نقرأ له سبعة أعمدة". 


كانت هذه افتتاحية جريدة المصري، التي أسسها "أبو الفتح" عام 1936 وشاركه في إنشائها الصحفيان محمد التابعي وكريم ثابت، ولم يمر وقت طويل على الجريدة حتى باع "التابعي" حصته في الجريدة لحزب الوفد، وتفرغ لمجلته الأسبوعية "آخر ساعة"، ثم لحقه كريم ثابت بعد أن عينه الملك فاروق مستشارا صحفيا له، فاشترى أبو الفتح حصصهما وأصبح  المالك الوحيد للجريدة، التي كانت ندا قويا للأهرام. 


وكانت لصفحات جريدة المصري، نصيب أيضا في انفرادات "أبو الفتح"، فقام بتغطية أحداث الحرب العالمية الثانية من خط النار، وصار ثالث صحفي يُسمح له بالدخول إلى خط ماجينو في فرنسا.


ورغم توجهاته الوفدية، لم يجعل جريدته حزبية، بل عارض الوفد فيما كان يرى أنه انحراف عن جادة الصواب، واستقطب العديد من الكتاب الكبار للمشاركة في المقالات بالجريدة، ومنهم عبدالرحمن الشرقاوي، يوسف إدريس، عبدالرحمن الخميسي، عبدالعظيم أنيس، ومحمود بيرم التونسي.


"عملي في الليل والزواج لا يتفقان، ويجب أن يكرس الزوج أكبر وقت ممكن لزوجته وحياته الأسرية، ونحن معشر الصحفيين لا نصلح للزواج".. كانت هذه رؤيته، التي برر بها اللقب الذي أطلقوه عليه، وهو "أشهر عازب في الصحافة المصرية". 


محمود أبوالفتح، المولود في أغسطس 1893، والذي في مرحلته الثانوية كتب موضوعا باللغة الإنجليزية في مادة الإنشاء، يطالب فيه بالدستور والاستقلال، وفي كلية الحقوق، التي التحق بها، قاد مظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزي، ظل يدافع عن الصحافة وإستقلاليتها وحقوق من يعمل فيها، ما دفعه للتفكير في إنشاء نقابة للصحفيين عام 1941.


اشترطت الحكومة آنذاك للموافقة، توفير مقر مناسب للنقابة، فتبرع أبو الفتح بشقته في عمارة الإيموبيليا ليجعل منها مقرا، وأجمع الصحفيون على انتخابه أول نقيب للصحفيين في مصر، قبل 74 عاما من اليوم.


لم يشفع له هذا التاريخ الصحفي عند السلطة الحاكمة في مصر عقب ثورة يوليو 1952، لتعطل عمل جريدة المصري، وتصادر كل ممتلكاته، وتحاكمه هو وأخيه أمام محكمة الثورة برئاسة قائد الجناح عبداللطيف البغدادي وعضوية البكباشي أنور السادات وقائد الأسراب حسن إبراهيم، بتهمة إجراء اتصالات ضد نظام الحكم، بسبب موقف أبو الفتح وجريدته المؤيد للديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته أثناء أزمة مارس 1954.


توفي محمود أبوالفتح في مدينة جنيف السويسرية، أغسطس 1958، عن خمسة وستين عاما، ورفض عبدالناصر أن يُدفن في مصر خشية أي مردود شعبي خلال الجنازة، فطلب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة نقل جثمان أبي الفتح إلى تونس لدفنه في مقبرة بنيت خصيصا له، وشُيع أبوالفتح إلى مثواه الأخير في موكب جنائزي مهيب، تقدمه بورقيبة وعدد من كبار المسؤولين التونسين والعرب.


ومثلما كان عمله بجريدتي الأهرام والمصري، ميلادا جديدا للصحافة المصرية، بحسب وصف الكاتب الصحفي الكبير محمد فهمي عبداللطيف، في مقاله بجريدة الأخبار، كان لغيابه أثرا ملحوظا في المسيرة الصحفية بعده.