التوقيت الأحد، 28 أبريل 2024
التوقيت 11:49 م , بتوقيت القاهرة

الإعلام في زمن الإسلام (3)

وقد اشتهر عن نابليون -الذي عقد الأستاذ عباس العقاد بينه وبين محمد ? مقارنة ذكية -  بأنه كان شديد الحذر من الألسنة والأقلام. كان يقول: إنني أخشى من أربعة أقلام، ما لا أخشاه من عشرة آلاف حُسام. وبنفس المنطق؛ كان حذر النبي من الشعراء، حاملي لواء الرسالة الإعلامية ورايتها عصرئذ، ذلك لأنه، وبحسب مقولة «مونتجمري وات»: كان التعبير عن الرأي العام وصياغة قيمه- في الأساس- مهمة الشعراء. فمحمد إذن؛ لم يكن يخشى من الشعراء أنفسهم، بل من تأثيرهم على الناس، وفي الرأي العام.


وقد تدرّجت وسائله في التعامل مع صناع الرأي العام، وتباينت، بحسب قوة تأثيرهم ومكانتهم في قومهم. فكان يقول: «ذبوا عن أعراضكم بأموالكم». فقالوا وكيف يا رسول الله؟ قال: «تعطون الشاعر ومن تخافون لسانه». يعني تمنحوهم الأموال لكي تكفوا عن أنفسكم وأعراضكم شر ألسنتهم.


إن هذا القول لم يكن مجرد نصيحة شفهية من قائد الأمة إلي شعبه، فهو نفسه، وفي غزوة حنين، كان قد طبقها، لما جاءه «عباس بن مرداس» غاضبا بسببه نصيبه من الغنائم. وكان النبي قد أعطاه أربعين ناقة فقط من غنيمة هوزان، التي وصل عدد البعير فيها إلى أربعة وعشرين ألف رأس، بينما رجل كصفوان بن أمية، الكافر، الذي لم يكن قد أسلم بعد، قد أخذ مائة ناقة، فقام يقول:


كَـانَتْ نِــهَـابـَا تَلَافَـيْـتُـهَــا وَكَـرِّي عَلـَى الـْقَوْمِ بِالْأَجْـرَعِ
وَحَثِّي الْجُنُودَ لِكَيْ يُدْلِجُوا إِذَا هَـجَـعَ الْـقَـوْمُ لَمْ أَهْـجَعِ
فَأَصْبَحَ نَـهْـبِـي وَنَهْبُ الْعُـبَيْدِ بَـيـْنَ عُـيَـيْـنَـةَ وَالْأَقْـــــرَعِ


وفي رواية أخرى:


أَتَجْعَلُ نَـهْـبِي وَنَـهْـبَ الْـعُبَـيْـدِ بَـيْنَ عُـيـَيْـنَةَ وَالْأَقْـرَعِ؟
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْقَوْمِ ذَا ثَرْوَةٍ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَـعِ


وعيينة والأقرع، اللذين وردا ذكرهما في هذه الأبيات، بسبب حصولهما على نصيب أكبر من الغنائم، هما «عيينة بن حصن» و«الأقرع بن حابس».


أما الأول؛ فهو الذي وصفه النبي بأنه الأحمق المطاع. وهو الذي طلب منه – بحماقة - أن يتنازل له عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها وأرضاها -  مقابل امرأة أجمل منها. وأمره النبي ألا يدخل عليه بدون استئذان فأجابه: «لا أستئذن علي رجل من مضر».


أي أنه بالإضافة لشرفه ولمكانته في قومه كان طويل اللسان. وما يؤكد ذلك أنه  قال لـ «عمر بن الخطاب» ذات مرة: ما تعطي الجزل، ولا تقسم بالعدل!


وكان طويل اليد أيضا، فهو الذي سرق إبل النبي، وقتل ابن أبي ذر. وقد أسلم قبل تلك الواقعة بأيام، ثم ارتد في خلافة الصديق، ولم يجرؤ خالد بن الوليد على قتله كما فعل بآلاف غيره، بل أرسله إلى أبي بكر فكلمه فعاد للإسلام.


أما الأقرع بن حابس؛ الذي أخذ من الغنائم أكتر مما أخذ بن مرداس، كان من ضمن من نادوا على النبي من وراء الحجرات. وكان شاعر أيضا، بل أكثر من شاعر؛ كان حكما في الجاهلية. وحين أتى بقومه إلى النبي، وعجر خطيبه عن مجاراتهم، استدعى على الفور وزير إعلامه؛ «حسان بن ثابت»، من بيته، للرد على جهازهم الإعلامي. وانتهى الأمر بأن تكفل ? بأداء المهمة بنفسه.


المهم؛ لما وصلت مقالة عباس بن مرداس عن النهب، إلى النبي محمد ? قال لأصحابه: اذهبوا فأقطعوا عني لسانه، فظلوا يعطوه من الغنيمة حتى رضي!


وهذه السياسة الإعلامية تشبه إلى حد بعيد سياسة المؤلفة قلوبهم، إذ يتحدث سفيان الثوري عنهم فيقول: هم من يدفع لهم سهم من الزكاة. لماذا؟ اتقاءً لشرهم أو تحبيباً لهم بالإسلام. وإلى تعريف قريب منه ذهب الإمام شمس الدين المقدسي، حين يقول عنهم: السادة المطاعون في عشائرهم، ممن يرجى إسلامهم ويخشى شرهم. وقد كان النبي يخشي شر هذا الإعلامي فتألفه بمائة من الإبل. ذلك لأنه إعلامي ثقيل الوزن، من عائله يتوارث أبناؤها المهنة. يكفي أن أمه «الخنساء»، الشاعرة الشهيرة.


وكان كعب بن زهير من أهم وأشهر إعلاميي شبه الجزيرة العربية. من عائلة قد احترفت المهنة كابر عن كابر أيضاً، وكان قد بث رسائل إعلامية محملة بأبيات الهجاء في حق أخيه الذي أسلم فجأة. فلما وصلت رسالته الإعلامية للنبي قال: «من لقي كعبا فليقتله»، ذلك لأنه لم يكن سيدا في قومه كالعباس بن مرداس، ففر الرجل هاربا من قطع رقبته، ثم نصحه أخوه أن يذهب إلى النبي متأسفا حاملا معه رسالة مديح، وبالفعل، ذهب الإعلامي الكبير، ببرنامج مغاير تماما عن برنامجه الأول، فما كان من النبي سوى أن خلع بردته وأهداه إياها، وتلك قصة مشهورة أوردها بن حجر في الإصابة، يزيد عليها ابن رشيق القيرواني أن محمد ? قد أعطاه مع البردة مائة من الإبل. فانضم على الفور إلى قناة المدينة.


وإذا لم يجد المال، في تأليف أحدهم وأن تحييده واتقاء شره، نفعاً، فللسيف وقتئذ الكلمة الفصل. وصدق من قال: السيف أصدق أنباء من الإبل!!


من هنا نستطيع أن نفهم سبب قتل اليهودي كعب بن الأشرف، الذي لم يكن المال ليسكته، فلديه منه ما يشتري به عدد من الفضائيات. فما إن لقى سادة قريش حتفهم يوم بدر وتم إلقاؤهم في القليب، وكانوا حلفاءه وشركاءه في التجارة، إلا وأعد رسالة إعلامية، حملها بنفسه إلى مكة، جاء فيها:


طـحنـت رحى بـدرٍ لـمهلِكِ أهلِهِ        ولمثلِ بـدرٍ تستهلُّ وتـدمَعُ
قُتِلَت سراةُ الناسِ حَول حياضِهِم        لا تبعدُوا إن المُلوكَ تُصَرَّعُ
فلم يكتف النبي محمد ? برسالة حسان المضادة، رداً علي اليهودي المرتعد خوفا من قتل شركائه، الحزين على فراق إحبائه: 
أَبَكَى لِـكـَعْـبٍ ثُمّ عُـلّ بِعَـبْرَةٍ    مِنْهُ وَعَاشَ مُجَدّعًا لَا يَسْمَـعُ
وَلَـقَـدْ رَأَيْت بِبَـطْنِ بَـدْرٍ مِنْهُمُ    قَتْلَى تَسُحّ لَهَا الْعُيُونُ وَتَدْمَعُ
فَابْكِي فَقَدْ أَبْكَيْتِ عَبْدًا رَاضِعًا    شِـبـْهَ الْكُلَـيْبِ لِلْـكُـلَيْبَةِ يَتْبَـعُ


بل أصدر ? فرماناً كان نصه: من لي بابن الأشرف؟ وما هي إلا أيام حتى أتى «محمد بن مسلمة» برأس ابن الأشرف، ووضعها بين يدي رسول الله ?.


ويتكرر نفس الأمر مع عصماء بنت مروان، الشاعرة، وغيرها كثر، مما يطول ذكر تفاصيل جز رقابهم، كما ورد ذكرها في كتب الأحاديث والسير.


وقد فطن صاحب كتاب العمدة في محاسن الشعر وآدابه، إلى سياسة النبي محمد الإعلامية، فقال مع معناه أن أولئك الذين أهدر رسول الله ? دمهم يوم فتح مكة، وقال عن بعضهم: «اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة»، كانوا ممن يحمل رسائل إعلامية تقدح في شخصه الكريم. كانوا ممن يهجونه بأشعارهم. وقد قُتل منهم اثنان، ومن بقي من الجهاز الإعلامي لقريش فر هاربا، نجاة برقبته.


وهذه الحوادث، التي تعج بها كتب الأحاديث والسير، ما كانت لتفوت على رجل له دقة ملاحظة ابن تيمية، فدفعته للقول: «كان النبي ? يقتل من كان يحاربه باللسان، مع استبقائه بعض من حاربه باليد». وهي عبارة وردت في كتاب، مطالعة عنوانه تغني عن قراءة متنه: الصارم المسلول علي شاتم الرسول!


وما قاله ابن تيمية الأصولي المتشدد لأبعد درجة، وافقه فيه العقاد، أحد رواد التنوير، في معرض حديثه عن عبقرية محمد  ?، حين قال ما معناه إنه حال ما استشعر أن أحدهم يهجوه أو يبعث برسائل إعلامية في إثارة القبائل عليه، كان يبعث إليه من يحاربه.. أو يغتاله!  


للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك