التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 07:01 ص , بتوقيت القاهرة

الإعلام في زمن الإسلام (2)

وبدوره، كان حسان الذي يقول عنه ابن الاثير إنه أجبن الناس، ولم يشارك بالسيف في غزوة واحدة، حتى أن النبي جعله مع النساء في الحصون يوم الخندق، وحين رأت صفية - عمة النبي - رجلا يحوم حول الحصن ودعته لقتله، قال لها: يا ابنة عبد المطلب أنتِ تعرفين أنني لست أهلاً لذلك، فتولت هي مهمة قتله بنفسها، أقول: كان يُدرك قوة تأثيره، ويعلم جيدا، رغم جنبه، ما لعظم وظيفته من دور ومكانة في مجتمع يُعد فيه الجبن مسبة. كان يعلم تأثير الإعلامي وأثر لسانه، فكان يصفه بأنه كالسكين.


وقد بلغ صيت لسانه في جزيرة العرب بأن ضربت به الأمثال، فكانت العرب تقول «شكره شكر حسان لآل غسان». كان لسانه مضرب المثل في الذلاقة والطول والحدة، وتلك طبيعة الإعلام.


وكان محمد ? يعلم جيداً تأثير مساندة الإعلام، فكان يشيد بالكوادر الموهوبة في الجهاز الإعلامي لدولته؛ عبد الله بن رواحة، وحسان. كان يقول عنهم: «هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح النبال». وهؤلاء النفر كانوا يبثون رسائلهم الإعلامية من المقر الرئيسي لإدارة الدولة، من المسجد. وكان النبي محمد يجزل لهم العطاء في المقابل. ولعل هذا ما دفع الزبير بن بكار في العصر العباسي ليقول: «علموا أولادكم الشعر؛ فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع القلب الجبان، ويطلق يد البخيل..». ونحن نعلم كيف كان الخلفاء من بعد عهد الراشدين يجزلون العطاء للشعراء، فقد كانوا يولون اهتماما بالغا بوسائل الإعلام، إما بغرض مديحهم أو الشرشحة والردح لخصومهم!


وكانت قريش كالنبي محمد أيضا، تدرك جيدا ما للإعلام من قوة تأثير، فحين عزم «الأعشى» على التوجه لمحمد، أدرك أبو سفيان أن تلك الخطوة ستجلب عليه الكثير من المصاعب، فتواجد كادر إعلامي بوزن «ميمون بن قيس» في الجهاز الإعلامي للمدينة، من شأنه أن يجعل للدولة الوليدة، على صغر حجمها وحداثه عمرها، ثقلا وتأثيرا كبيرا في شبه جزيرة العرب، تمامًا كحال دولة قطر اليوم.


في البداية؛ بدأ أبو سفيان بتنفير الشاعر من تلك الخطوة، فجلس يعدد له الممنوعات التي حرمها محمد على أصحابه، لكنه لم يستجب، فلم يستسلم أبو سفيان للأمر، ووقف في قريش يقول: «يا معشر قريش! هذا الأعشى والله لو آمن بمحمد واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره». وهي جملة بالغة الدلالة، توضح، وبجلاء، تأثير الإعلام وقوة الإعلامي في تعضيد شرعية الدولة، والإجهاز على خصومها. 


وكان رأسماليو قريش وتجارها الأثرياء يدركون أيضا ما قاله أبو سفيان، كانوا يعلمون جيدا أن العرب تقول عن الأعشى «ما مدح أحد قط إلا ورفع من قدره». فجمعوا له مائة من الإبل، كبديل عن الانضمام لقناة المدينة، فأخذها وانطلق إلى بلاده، بيد أنه لم يصل، إذ لقي حتفه في الطريق. ونحن لا نشك في أن موته قد تم تدبيره، لا كما قال الرواة، أنه سقط من على البعير فمات.


انتهت غزوة أحد بهزيمة المسلمين، وكانت قريش قد اصطحبت معها كوادرها الإعلامية النسائية بزعامة هند بنت عتبة، التي وقفت تصيح في أرض المعركة لتشحذ همم الرجال برسالة إعلامية جنسية قالت فيها: «نحن بنات طارق.. نمشي على النمارق.. إن تقبلوا نعانق.. أو تُدبروا نفارق.. فراق غير وامق».


وفور أن غادر الجيشان أرض المعركة، اشتعلت الحرب بين الجانبين مرة أخرى، لكنها حرب على الصعيد الإعلامي هذه المرة، فمن مكة بث إعلام الكفار رسالة جاء فيها: 


سُقْنا كنانة من أطـراف ذي يمَنٍ        عرضَ البلادِ على ما كان يزجيها
نحن الفوارس يوم الجرّ من أحد        هابتْ مـعدٌّ فـقـلنا نـحـن نـأتيهـا
هابوا ضرابا وطعنا صادقا خذِما        مما يرون وقد ضُمـَّت قـواصيـها
لا ينبحُ الكلـب فيهـا غيرَ واحـدةٍ        من القَريس ولا تـسري أفـاعـيها 


إذ ذاك؛ وقف رسول الله يستنفر رجال إعلامه، فسأل: ألا رجل يرد عنا؟ فأجابه وزير إعلامه، حسان، وقال: بلى. فقال له رسول الله: «أهجهم وروح القدس معك، واذهب إلى أبي بكر يعلمك تلك الهنات».


وما إن أتم النبي مقولته، التي رأى فيها حسان انتقاصا من قدره، حتى أخرج لسانه للنبي وأشار إليه بإصبعه وقال: «والله يا رسول الله ما يسرني به مقل من معد! والله إني لو وضعته على شَعر لحلقه، أو على صخر لفلقه».


ويعقب الجاحظ على قسم حسان ووصفه للسانه فيقول: لا ينبغي أن يكون ما قال حسان إلا حقا، وكيف يقول باطلاً والنبي يأمره، وجبريل يسدده، والصديق يعلمه، والله يوفقه(!) وعلى الفور، تطلق منصة الإعلام الإسلامي، عبر أثير الشعر رسالتها المضادة: 


سُـقْتُم كِنانَةَ جهْلاً مِنْ سفاهَتِكُم        إلى الرّسول فَجنْدُ الله مخزيها
أورَدْتُموها حِيَاض الموت ضاحِيةً        فالنار مَوعدُهَا والـقـتلُ لاقيها
جمّعْتُموها أحابيشاً بلا حـــسبٍ        أئِمَّةُ الكفرِ غرَّتْكُـم طَـوَاغِيهَـا
أَلا اعتبَرتُـم بِـخيلِ اللهِ إذ قَتلـَـت        أهْلَ القلِيبِ ومَنْ أَلْقَينهُ فـيهـا
كـمْ مِـنْ أَسِـير فكَكْـنَاهُ بِلاَ ثمنٍ        وجَـزِّ نَــاصِيـةٍ كـنَّــا مـوَاليـهـا


وتستمر الحرب الإعلامية مشتعلة بين القناتين؛ قناة المسلمين، والمشركين - أخزاهم الله - لعشرات من ساعات البث المتصلة بلا انقطاع ولا هوادة.. مرة تبعث هند من قريش برسالة، فيرد حسان بأخرى مضادة من المدينة، ومرة يذيع عبد الله بن رواحة من المدينة فيتصدى الزيعري من مكة. وقد جاء في إحدى برامج حسان ضد هند: 


لـعن الإله وزوجها معهــا        هند الهنود طويلة البظـر
وعصاك استك تـتقين بهـا    دقي العجاية هند بالفهر
قرحت عجيزتها ومشرجها    من دأبها نصاً على القتـر
ونسيت فـاحشة أتيت بـهـا    يا هند ويحك سبة الدهر
زعم الـولائد أنـهـا ولــدت    ولداً صغيراً كان من عهر 


فاصل.. ويوم الخميس - إن شاء الله – نواصل.  


للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك


المصادر: 
ثمار القلوب في المضاف والمنصوب لـ الثعالبي
العمدة في محاسن الشعر وآدابه لـ ابن رشيق القيراوني 
الملل والنحل لـ الشهرستاني. 
تاريخ الرسل والملوك لـ الطبري
البداية والنهاية لـ ابن كثير.