التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 12:12 ص , بتوقيت القاهرة

ثقافة الحرب وثقافة السلام

عندما تندلع حالة الحرب فإنّ تأثيرها يتجاوز الرصاصات والدماء، ليشكل تغييرا في الحالة الثقافية للمجتمع الذي تخوض دولته الحرب.

المجتمع الذي يخوض حربا تكون حساسيته مفرطة، المقصود بالحساسية هو عدم قدرته على تحمل النقد الذاتي، والشك في الغرباء والأجانب بشكل كبير، ومحاولة تقليص مصلحة أي فرد لمصلحة الغالبية(التي يطلق عليها مصلحة المجتمع).

تتناسب هذه الحساسية طرديا مع صعوبة المعركة نتيجة انتشار الخوف والهواجس والقلق، وربما نتيجة صور المعارك والضحايا، وربما نتيجة تواتر أخبار عن قتلى بين الجنود من المعارف والأصدقاء  إلخ، وتتناسب هذه الحساسية عكسياً أيضاً مع قدرة الدولة على الحسم العسكري، فكلما كانت الدولة أقوى كانت حساسية المجتمع فيها أقل.

الحرب إذن ليست فقط حالة سياسية وعسكرية بل حالة ثقافية وفكرية، وعلى المستوى الفردي هي حالة نفسية كذلك، فالحرب يظهر فيها بوضوح  تجسيد لنظرية توحد القطيع التي تراها في الكائنات الأخرى كالحيوانات، نحن نستخدم تعبير القطيع في العادة  للإشارة له بمعني سلبي، وهو القطيع مسلوب الإرادة الذي يتحرك خلف الراعي بلا وعي، ولكن هناك معنى إيجابيا للقطيع،  وهو معناه الأصلي الذي يحدث نتيجة توحد مجموعة من الكائنات ذوات النوع الواحد عند شعورها بوجود خطر يتهددها، فتتحرك معاً أو تصدر أصواتاً بكل جماعي لإخافة العدو أو تصنع فيما بينها تشكيلاً حربياً للمواجهة إلخ.

الأغاني والألحان زمن الحرب مختلفة، الكتب والمقالات مختلفة، حتى الفلسفة وقت الحرب وبعدها تصبح مختلفة. الحروب إذن تغير ليس فقط المسارات السياسية والاقتصادية، بل كل المجالات من الإدارة للفلسفة ومن علم الاجتماع إلى علم النفس.

تسحق الحرب أرواح البشر في سبيل تحقيق الانتصار، يصبح من الطبيعي أن يكون الإنسان المهدد دائماً مستعداً لقتل خصمه إذا وجد فرصة لذلك.

من حسن الحظ أن الحروب تطورت كثيراً لتتحول من تدمير وإبادة الخصم بالكامل أو إبادة الذكور وسبي النساء أو إبادة الذكور البالغين وسبي واستعباد الباقين إلى حرب تهدف إلى تدمير أو تحجيم القوة العسكرية للخصم، وبالتالي أصبح من العسير أن تتكرر في المائة عام الماضية كوارث الإبادة الجماعية طيلة مئات الآلاف من السنين التي نتج عنها انقراض الملايين من افراد الجماعات المختلفة من ذوي الجينات العرقية التي اختفت.

للحرب ثقافتها ومفاهيمها ووسائلها، وثقافة الحرب هي ما تزرع في الإنسان الشعور الدائم بالخوف الذي نحسه في مجتمعنا، يحاول البعض أن يقول إن هذا الشعور الدائم بالخوف من المستقبل أو من الأجانب سببه البروباجاندا أو الدعاية السياسية التي تحركها أجهزة الدولة، لكونها تسعي لإخضاع الناس بالخوف وغيرها من النظريات التي أطلقتها القوى الثورية في الأعوام الماضية، بينما تتهكم على جمل مثل ( مش أحسن ما نبقى زي ليبيا والعراق إلخ)

ولكن في اعتقادي أن هذا غير صحيح أو بمعنى أدق هو صحيح بنسبة صغيرة، فبالتأكيد للإعلام دوره، ولكن هناك أسبابا أخرى أهمها الوضع الإقليمي والدولي بالتأكيد، ولكن هناك سببا أكثر أهمية يجعل الناس أكثر تخوفاً من المستقبل ومن الآخر ومن الأجنبي ومن أي فكرة جديدة.

السبب ببساطة هو أن ثقافة الحرب كامنة في عقل المجتمع  وممارساته طول الوقت، لم يسبق لمجتمعنا أن جرب ثقافة السلام منذ مدة طويلة، لهذا فإن الخوف المرضي يسيطر على نسبة غير قليلة  منه بشكل واضح باستمرار، ومنذ ما قبل يناير 2011 فكيف الحال  لو أصبحت الظروف كما هي الآن.
كم مرة منذ كنت طفلاً سمعت جملة أننا سنحارب قريبا؟ كم مرة دعا شيخ الجامع للحرب على إسرائيل أو على الغرب الكافر أو الملاحدة السوفييت أو مجرمي حرب البوسنة الخ، كم مرة سمعت مصطلح الحرب على الإسلام، كم مرة سمعتهم يكررون قصص حطين وعين جالوت؛ ليؤكدوا أن الحرب قادمة ؟ كم مرة سمعت حديث( ورائي يهودي تعال فاقتله)، كم مرة سمعت عن الحرب ضد الإمبريالية العالمية، كم مرة اندمجت في قصص الصراع مع الماسونية وأعجبك غموضها وخزعبلاتها إلخ.

ثقافة انتظار الحرب أو تمني الحرب  هي جزء من ثقافة الحرب، والسبب في أن المجتمع لم يغير هذه الثقافة أنه لم يتم القبول ببديلها وهو ثقافة السلام.

فكرة اللاسلم واللاحرب مترسخة في ذهننا منذ قبول مبادرة روجرز، مثل نظام الأسد طيلة أربعة عقود أحد أكبر محترفي هذه اللعبة، وقعنا اتفاقية سلام لكننا جعلناه سلاما بنكهة ثقافة  الحرب،  ففشلنا في جعل ثماره تصل إلى  الناس.

السلام له ثقافته، تختفي الأسلحة ويظهر مكانها التبادل التجاري، تظهر الرحلات السياحية المتبادلة، تتعامل مع الآخر عن قرب، تختفي الصورة الشيطانية التي ترسمها للآخر لتحل محلها صورة إنسان مثلك، تطّلع على أفكاره كما يطلع على أفكارك، تقرأ كتبه وأشعاره، وتسمع موسيقاه، وتحضر معه المنافسات الرياضية لتهزمه أو يهزمك، تتحول حتي أوراق الضغط بينكما إلى أوراق ضغط  مرتبطة بمصالح تجارية متبادلة بأكثر مما هي أوراق ضغط عسكرية واستراتيجية، السلام يعني علاقات طبيعية مع الآخر تقوم على الندية لا على الخوف ولاعلى الحقد حتى لو اختلفت المواقف تماماً حول أي قضية.

ثقافة السلام تزيح التهديد من عقلك ومن تصرفاتك، تسمح باتساع الحرية الفردية، لا يصبح خروج أحد من المألوف أمرا مرعبا  أو تهديدا للقطيع لأنه ببساطة لا يوجد قطيع، لا ينمي الخوف من المجهول كل مخاوف الإنسان الغيبية فيتحول شيئاً فشيئاً نحو مزيد من التدين للتغلب على مخاوفه إلى أن يتحول إلى مجذوب أو درويش أو إرهابي أو قاتل.

كثيرون لا يفهمون معنى ثقافة السلام ولا يربطون  صعود الدروشة والخزعبلات بهزيمة 1967، برغم كون هذا حقيقة مؤكدة، وكثيرون لا يفهمون أن صناعة عقلية المقاطعة والرفض ورفض تطبيع العلاقات بعد نهاية الحرب  كان تكريسا لثقافة الحرب، وإضافة لمزيد من الوقود في نار تفكيك المجتمع من الداخل بمنتجات هذه الثقافة.

لقد خسرنا الكثير بسبب العقلية التي أنتجت ذلك، تنظيم ثورة مصر مثلا قرر منع اسرائيل من التواجد في معرض الكتاب بالإرهاب في الثمانينات، وكانت تلك هي المحاولات  الحكومية الأخيرة لإبقاء فكرة العلاقات الطبيعية مطروحة.

العقلية التي حافظت باستماتة على ثقافة الحرب هي التي انتجت فوضي الإسلامجية وإرهاب تنظيم ثورة مصر، وعنف المولوتوف والحجارة، والرغبة الدائمة في الاشتباك في حروب الشوارع.

أجيالنا نشأت على ثقافة الحرب  بسبب هؤلاء  وبسبب من غذوا هذه الأفكار في تيارات الرفض المختلفة اليسارية والإسلامية. هم من أقنعوا المجتمع أن العالم كله يحاربه، ولهذا كله فمن الغريب أن يشتكوا الآن من كراهية المجتمع لهم باعتبارهم أعداء.

من يزرع الحرب يجني الحرب ومن يزرع السلام يجني السلام.