التوقيت الأربعاء، 24 أبريل 2024
التوقيت 06:07 م , بتوقيت القاهرة

أحسن ما نبقى زي الهند والصين

في ثمانينيات القرن العشرين، اشتهرت إحدى خطب الجمعة بإحدى بلدات الدلتا، ذكر فيها الخطيب مهاجما وسائل منع الحمل بحسب ما يعتقده: أن إحدى السيدات التي تناولت "النورمنست" لما وضعت مولودها، وجدوا قبضة يد الجنين مغلقة بشدة، فلما فتحوها بصعوبة، وجدوا بداخل يد الجنين إحدى حبوب منع الحمل، فهلل الحاضرون، وانتشوا مع رواية الخطيب البليغ، الذي استدل على غلبة إرادة الله، ببعث روح جديدة للحياة وللإسلام، وأنهم أرادوا أن يتحدوا إرادة الله، فانتصر الله عليهم بمعجزة!


ورغم ما في الخطبة اللطيفة من مغالطات علمية وطبية، تتعلق بمسار العقار، من المعدة إلى الرحم، واستقراره دون ذوبان فى يد الجنين العظيم، إلا أن قبول المستمعين لهذه القصة، كان مؤشرا لنجاح تعويق جهود خفض معدل الإنجاب وتحديد النسل، والمصطلح الأخير كان سيئ السمعة فى هذا التوقيت، تم تشويهه عمدا لأغراض سياسية ودينية، وأخذ وقتا حتى تم استيعابه فى مجتمعنا، خلال هذه الفترة تم إنجاب دفعات عديدة، من الذين يُستخدمون فى تأجيج العنف ضد الدولة الآن.


إذا مررت بشاشة تعداد السكان الرقمية الضخمة بطريق صلاح سالم، فلن تجد أرقامها تصل إلى حد التسعين مليون نسمة، وهو الرقم المتداول لدينا منذ نهايات فترة حكم الرئيس مبارك، ورغم صدور نشرات جهاز التعبئة والإحصاء بأن عدد سكان مصر قد زاد فى عام 2011 بمعدل 2.4 مليون نسمة، وبذات المعدل، فمن المفترض أن زيادة السكان في السنوات الأربع بلغت حدود 10 ملايين نسمة إضافية، لكن الساعة تطمئننا بأننا لم نبلغ حد الـ 90 مليونا بحسب المتواجدين بداخل القُطر المصري.


وإذا كان الله قد ابتلانا بقوم يرون دولا أصابها الدمار، ويسخرون من أمانٍ نالوه دون استحقاق، بعبارة "أحسن ما نبقى زى سوريا والعراق"، فإن نفس هؤلاء تقريبا عند تناول مشكلة التغول السكاني، تجدهم وقد تخصصوا بجملتهم فى الشأنين الهندي والصيني، فيردون بعبارة "ما تشوف الهند والصين"، وهي عبارة إنهاء الإشكالية، وإلقاء العبء نحو الدول وحدها.


ويروجون لهذه العبارة وكأن الدولتين تطلبان من سكانهما زيادة النسل كهدف قومي، لا باعتبارهما تحاولان التعامل مع الأمر كأزمة مطلوب حلها والخلاص منها، بمحاولات صريحة للحد من الزيادة، قد تصل إلى حلول بدائية قاسية كالتي اتخذتها حكومة أنديرا غاندى فى الهند فى سبعينيات القرن العشرين، بتعقيم الرجال إجباريا، أو بسياسة الطفل الواحد التى اتبعتها الصين فى نهايات السبعينيات، كمحاولة لإيقاف تفجر السكان المرعب هناك.. فضلا عن تجاهل مقارنة موارد وإمكانيات وجغرافية وثروات والوضع السياسي لهما، ومقارنتهما بمصر.


هؤلاء أعينهم لا ترى الفقر والمرض فى الهند، ولا الزحام والتلوث فى الصين.. ولا يؤذيهم الكثافة والتكدس والتصارع حول الفرص الضئيلة التي تتوزع على أعداد ضخمة، ولكن يرون أن الطعام والثروة هو المعبر عن كفاية الشعوب حتى لو عاشوا مكدسين بأقفاص.


وحتى مفهوم الرزق لدى الإسلاميين أصحاب خطاب "التناسل والتناكح"، لتحرير الأقصى وزيادة أعداد المؤمنين، هو رزق مادي يتمثل في المسكن والطعام الذى سيكون دينا على أي حكومة ستستقبل بدورها أفواها تولد جائعة.. أما العيش فى حياة صحية دون الزحام والتكدس والضجيج والتلوث بأنواعه، فهي أمور لا تدخل فى إطار "الرزق" لديهم.


لدينا خطابان سياسي وديني، الأول قام على مغازلة الجماهير وإعطائها الحق فى التناسل بلا حساب، استمرارا لخطاب ناصري قديم بأن كل طفل يولد هو قوة تضاف للقوى العاملة، وهو خطاب مضى عهده، لم يعد يصلح لعالم يمتلئ بأنماط إنتاجية لا تحتاج لعمالات كثيفة.. وهذا الخطاب يلقي العبء بأكمله على الحكومات، ويبرئ الشعوب من مسؤولية تناسلها السريع والمكثف، وهو ذات الخطاب الذي يتحدث عن كل الدول التي لديها مشكلة زيادة سكانية، باعتبارها دولا عامرة بالموارد المطلوب استنفادها!


أصحاب هذا الخطاب، يروجون لاستهلاك كل الموارد المتاحة سريعا، رغم تعللهم بمستقبل الأجيال القادمة، وهى أجيال ستأتي تجد هؤلاء وقد استنفدوا موارد الطبيعة المتناقصة فى فترة زمنية مكثفة للغاية.. وأما الخطاب الثانى "الدينى" فقد كان الأذكى، كان ينشئ قواعده الجماهيرية، الأقل دراية ومعرفة ويلقيها فى وجه الحكومات كقنابل موقوتة، يوجههم نحو التناسل في خطاباته، بدافع أن الله موكل بالرزق، ثم يصدرونهم للدولة يطالبونها بسرعة سد الأفواه الجائعة.


في فترة الانتخابات الرئاسية 2012 صرح المرشح الرئاسي عمرو موسى بأن: الزيادة السكانية نعمة.. وهو تصريح يتميز بالتهاون الشديد في سرد الحقائق، في مقابل المكاسب الانتخابية المنتظرة، وبمغازلة الجماهير بأفكار وشعارات تنفي عنهم المسؤولية.. لذلك عاد السيد عمرو موسى، فى سبتمبر 2012 بخطاب مغاير، حينما صدر تقرير من الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بوصول عدد سكان مصر بالداخل والخارج، إلى 91 مليون نسمة، فوصف التقريربأنه: ناقوس خطر، وأن الزيادة تؤخر قطار التنمية!


فى فبراير 2014، وبعد ناقوس الخطر، عاد اللواء أبو بكر الجندي، رئيس جهاز التعبئة والإحصاء، ووصف الزيادة السكانية بأنها نعمة يمكن استغلالها!!


أما منافسه الدكتور محمد مرسي، فقد صرح فى أكثر من لقاء تليفزيوني، منها لقاء بالتليفزيون المصري مع الإعلامي طارق حبيب قال فيه: بأنه يرحب بالزيادة السكانية، معتبرا إياها ثروة قومية، مؤكداً أن العالم "يفرح" بزيادة عدد السكان، وأن الله موكل بالرزق للجميع، وعليه فسيطعم هذه الزيادات، هكذا إلى ما لا نهاية، ثم نقل الأمر إلى ارتباط الرزق بالتقوى، وذكر الآية القرآنية "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء"..


هكذا نقل مرسي العهدة إلى الله، بعدما كانت في رقبة الحكومات..



بعد توليه الحُكم، جاء وزير الري  فى حكومة هشام قنديل، الدكتور محمد بهاء الدين، وذكر أن مصر دخلت في مرحلة الفقر المائي، وذكر أن النمو السكاني من المسببات، وذكر معها ندرة المطر والمناخ، الذي يبدو أنه قد تفاجأ بهما، فذكرهما كعارضين على مصر.. قبلها كان مرسي في برنامجه الانتخابي، قد وعد المصريين بزيادة المياه بالدعاء، ولم تمطر حتى الآن!


فى مرحلة سابقة ردد الدكتور محمد البرادعي عبارات مشابهة بخصوص القوة البشرية واستغلالها المفيد للوطن.. أما وزير الري الحالي الدكتور حسام المغازي، له عدة تصريحات بشأن الفقر المائي والشح المائي، مؤكدا أن مصر قد أصبحت فقيرة مائيا، طبقا للمعدلات العالمية.


الرئيس السيسي في حديثه عن الزيادة السكانية، بدأ بالتعامل معها بالحديث التقليدي، عن مواجهة الزيادة السكانية بالمزيد من العمل والتنمية، كأمر واقع يجب ملاحقته برفع معدلات الجهد والاستثمار، وذكر فى خطاب تأسيس تفريعة قناة السويس، أن هناك 26 مليونا قادمون في غضون عشر سنوات، وردد الأمر دون  إشارة استغراب لأن نضيف رقم  كهذا في عشر سنوات، وذكر أننا بصدد تأسيس عاصمة جديدة، عليها تستوعب 10% من هذه النسبة، أي حوالي 2.6 مليون نسمة، أما باقي الـ 26 مليون، فغالبا سيتكدسون فى أماكنهم.


ثم عاد السيسي في فبراير2015 بحضور شيخ الأزهر، ووصف الزيادة السكانية بكونها أكبر مشكلة تواجه مصر بعد الإرهاب، وذكر أنه أجّل الحديث فيها إلى وقت مناسب، وربط الزيادة بانتشار العشوائيات وتدهور الصحة والتعليم.. وألمح لدور الإعلام المطلوب فى التوعية..  وهذا يعد أول حديث صريح لقيادة سياسية من بعد 25 يناير، يتناول الزيادة السكانية كمشكلة، ولو بشكل بسيط، وليست كميزة كما اعتدنا من خطابات المعارضة والوعظ.


السيسي ألمح أيضا إلى أن تغيير أفكار المجتمع المصري بشأن التناسل سيحتاج لفترة زمنية، وهو ما يؤكد تعامله مع الزيادة السكانية كأزمة، وهي دعوة منطقية، ستفتقد قيمتها فى اعتقادي، إن لم تستكمل فيما بعد بتوجيهات تشتد صرامتها تدريجيا، حتى تصل إلى قوة حاكمة تجبر المجتمع على تحديد النسل بطفل أو باثنين، قبل أن يفترس بعضه، أو تعجز الأرض عن إطعامه، على حد تعبير "مالثوس".. ولنا في الشدة المستنصرية سابقة.


يذكر الدكتور. عبد المنعم مصطفى في كتابه "الانفجار السكاني والاحتباس الحراري": "..... يقول بعض علماء البيئة: إنه عندما يبدأ التدهور، فإن النمو السكاني السريع والتدهور البيئي يغذى كل منهما، الأمر الذي يؤدى إلى حدوث تصدع اجتماعي، وظهور مشكلات عديدة فى البيئة ناتجة عن نقص ملموس في تفهم العلاقة بين النمو السكاني والصراع الاجتماعي. فالسكان الذين يزيدون بسرعة رهيبة في الدول النامية، يتنافسون على قاعدة مصادر ثابتة أو آخذة فى النقصان ومعرضة للتدهور. كما أن الأمراض تكاد تكون ملازمة لسكان الدول الفقيرة، فالملاريا تنتشر فى دول إفريقية كثيرة لتقضي على أعداد كبيرة من الناس، وتنتشر الكوليرا فى الهند مسببة موت كثير من الفقراء، ومن المعروف أن مضاعفات المرض تكون أكبر وأخطر عند الجائع".


المخاطر الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والصحية، الناجمة عن الزيادة السكانية المتروكة لعشوائية تصرفات المجتمعات، دون تدخل حاسم من الحكومات - أكثر من أن تحصى، وإذا اعتمدنا رقم 26 مليون كل 10 سنوات، فهذا معناه أن مئة مليون مصري سيضافون لنظرائهم الحاليين في غضون أربعين سنة، دون حساب زيادة المعدل الناتج عن تضخم القاعدة السكانية، وهذا معناه أيضا أننا سنصل لربع مليار نسمة في غضون ستين عام.. وهذا لا يعني سوى أننا نضيف للأرض نظريات علمية جديدة، تتطابق وبعض مورثاتنا الثقافية، ملخصها أن هناك شعوبا تلجأ للانتحار.