التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 07:43 م , بتوقيت القاهرة

الوصفة الكندية

قال مدير المدرسة إنه فخور بأن تلاميذه أصولهم من كل مكان في العالم، فالمدرسة تضم مختلف الأديان والثقافات والأعراق. كان ذلك في الاحتفالية التي أقامتها إحدى المدارس الحكومية الكندية. حيث تحضر كل أسرة نوع الطعام الذي تحبه، من الأفضل أن يكون خاصا ببلدهم الأصلي. في هذا الاحتفال تتعارف الأسر والطلبة والمدرسين وتحدث نقاشات عن أحوال الدراسة وأحوال أبنائهم في مناخ غير رسمي.


لم يكن مدير المرسة يبالغ أو يقول كلامًا إنشائيًا، فعندما تدخل من باب المدرسة في طريقك إلى قاعة الاحتفال، ستجد كلمة "مرحبًا"، بالعربية والفارسية والصينية ومختلف لغات العالم، وبالطبع الإنجليزية والفرنسية اللغتان الرسميتان في كندا. كما ستجد في الممر المؤدي إلى داخل المدرسة لوحات كثيرة رسمها طلبة كنديون لبلدانهم الأصلية. ستجد لوحة تعبر عن مصر، وأخرى عن اليابان وأخرى عن بنجلاديش.. الخ. ( يمكنك مشاهدة نماذج منها أسفل المقال).


هذا الاحتفال ليس استثناء، فعلي سبيل المثال لديهم احتفال اخر اسمه "الشهر الأسود"، يتضمن أنشطة كثيرة على امتداد شهر. الهدف منه أن يقول الشعب الكندي، للكنديين السود "نحن لم ننس، ما زلنا نتذكر". المقصود هي الآلام والعذابات التي تعرض لها الأفارقة الذين كانوا يستجلبونهم للعمل كعبيد في كندا.


أفلام وثائقية عن تاريخ السود. كما تتضمن الاحتفالية مثلاً  تقديم معلومات عن الشخصيات البارزة من  السود الذين أسهموا في مختلف المجالات في بناء كندا وأمريكا. تقديم مختلف أنواع الموسيقى الإفريقية والموسيقى التي أبدعها السود في أمريكا وكندا. كما يقوم كل فصل باختيار موضوع له علاقة بالسود لكي يعمل حوله ما يشبه مجلة حائط مثل تلك التي كنا نقوم بعمله في مدارسنا. وكانت إحدى المجلات تحت عنوان " I have dream" " عندي حلم"، وتضمن ما يحلم به كل تلميذ سواء كان الحلم شخصيًا أو حلم لبلده الأم. فهي مدرسة لتعليم الإنجليزية للقادمين الجدد إلى كندا.  كما تضمن الاحتفال عرض أزياء، لم يكن فقط للسود الكنديين، ولكن ضموا إليه مختلف الثقافات، بما فيها مسلمون من باكستان ومن سوريا ولبنان. ( يمكنك مشاهدة بعض الصور أسفل المقال)


من المهم أن أقول لك إن الأمر لا يقف عند حدود الاحتفالات. فالدولة الكندية تنفق من أموال دافعي الضرائب على مدارس تعلم اللغات والأديان. مثلاً توجد مدارس تعلم اللغة العربية والقرآن. كما تنفق أيضًا على أي نشاط يساهم في دعم ثقافة أي طائفة تعيش في كندا. فمثلاً توجد إذاعة باللغة العربية، وتوجد صحف ومواقع إلكترونية بالعربية ممولة من الدولة الكندية. فالدستور ينص على تشجيع الأقليات على الحفاظ على لغاتها وثقافتها الأصلية. لذلك لم تنزعج المدرسة عندما قالت لها الأم إنها تكلم أولادها بالعربية في البيت، بل وشجعتها على ذلك. 


لماذا يفعلون ذلك؟ 
لأنهم يعتقدون أن الاحتفال بمختلف الثقافات والأعراق والأديان والعقائد يقوي كندا، بل هو سبب قوة كندا. فقوة هذا البلد لا تكمن في بترول مثلاً، ولا في أنها دولة لها دين محدد أو لغة محددة، ولكن في معجزتها في أنها بلد قادر على خلق انسجام وتفاعل خلاق بين كل هذه المكونات المختلفة. فهم يؤمنون إيمانًا راسخًا أنه لا تناقض بين أن تكون كنديا وبين أن تكون مسلما أو بوذيا أو بهائيا .. إلخ. بل على العكس، كلما حافظت على خصوصيتك الثقافية، فهذا يعني أنك كندي أكثر، لأنك تغني البلد بثقافتك ومعرفتك.  


إذن ما الذي يجمعهم؟ 


الذي يجمعهم أولاً أنهم أحرار. أي كل مواطن كندي يعيش حرية حقيقية في كل شيء. فأيا كانت ديانته، يستطيع بناء مكان للعبادة. وأيا كانت لغته، يستطيع الاستمرار في تعلمها وتعليمها لأولاده، بالإضافة إلى الحرية الشخصية، فلا يستطيع أي من كان أن ينتهك هذه الحرية، فأنت تفعل ما تشاء طالما لا تعتدي على حريات الآخرين. كما أن الحريات العامة مقدسة. على رأسها بالطبع حرية الرأي والتعبير والتنظيم. فأنت تستطيع أن تؤسس حزبًا أو صحيفة أو قناة تليفزيونية.. إلخ دون أي عقبات. كما تستطيع الاحتجاج والتظاهر كما تشاء بشرط ألا تعتدي على الأخرين. 


الدولة هنا وظيفتها هي حماية كل هذه الحقوق وليس انتهاكها. الدولة ليس لها توجه ديني أو سياسي، الدولة، بمعنى الجهاز الإداري والمؤسسات تعمل بشكل مهني لصالح كل الكنديين. وجود أي حزب على رأس الدولة لا يمس أبدًا هذه الحقوق المقدسة، بل ولو حدث انتهاك "تقوم الدنيا ولا تقعد". 


لماذا أقول لك كل ذلك؟


للتأكيد على أن نجاح الدول والشعوب أمر سهل، ولا يحتاج إلى زعيم ملهم، ولا يحتاج إلى القبضة الحديدية ولا يحتاج إلى عبقرية. كل ما يحتاج إليه هو بناء دولة علمانية تقوم على المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات بين كل مواطنيها. دولة تحتفي بكل مكونات وثقافات وأعراق وأديان وعقائد الشعب، وتحميها. 


هذه الدولة ليست معجزة تهبط من السماء. انظر حولك في كل مكان في العالم، ستجد أن هذه هي أسس الدولة الناجحة في كل مكان، ليس فقط نجاحا اقتصاديا، لكن أيضًا نجاحا في أن تكون دولة مهمتها إسعاد مواطنيها. هذا النموذج يمكننا أن نصنعه الآن وفورًا، يمكننا أن نضع مصر على هذا الطريق.  كل ما تحتاجه هو أن ترفض بحسم ما يعطل الوصول إلى دولة محترمة، وتساند ما يوصلنا إلى بلد محترم. 


شاهد الصور