التوقيت الأحد، 28 أبريل 2024
التوقيت 01:05 ص , بتوقيت القاهرة

بروفايل| البابا كيرلس السادس.. "جسر الإصلاح" في الكنيسة القبطية

في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة القبطية في حاجة ماسة إلى التطوير والإصلاح، لم يكن يخطر ببال أحد أن يأتي ذلك الإصلاح المشنود على يد ذلك الراهب البسيط، رغم أنه كان يحظى بمحبة واحترام كثيرين، ولكن القرعة الهيكلية أتت بالبابا كيرلس السادس، ليضع ذلك الراهب الوقور أولى بذور الإصلاح والتطوير بالكنيسة لكل من يخلفه في البابوية، ليكون علامة مضيئة وفارقة وخالدة في التاريخ الكنسي.

كان عازر يوسف عطا الذي ولد بدمنهور في 2 أغسطس عام 1902، محبا لحياة الوحدة ويعكف على دراسة الكتاب المقدس، فأشتاق لحياة التكريس حتى ترهب بدير البراموس في يوليو 1927، باسم مينا البراموسي، وقضى معظم فترة الرهبنة متوحدا بالمغارات، وكان أشهرها طاحونة مصر القديمة التي عاش فيها، ورغم عزلته تلك، إلا أن كثيرون كانوا يأتون إليه ليصلي من أجلهم، خاصة من الشباب والطلبة الذين أحبوا فيه حنوه وبساطته وبشاشته وتقواه التي يعتقد كثير من المسيحيين أنها تصنع المعجزات.


أوضاع مضطربة

لم يكن البابا يوساب الثاني، في فترة الأربعينيات والخمسينيات، قادرا على إدارة الكنيسة رغم علمه الغزير وتقواه المشهودة، فكان خادمه المدعو "مِلِك"، متحكما في معظم شؤون البطريركية ليديرها كما يريد، ولم يكن التعليم في أفضل حال، ما أثر بالضرورة على القاعدة التي يُختار منها الإكليروس، ولم يكن مبدأ الأمانة والكفاءة هو معيار رسامات القيادات الدينية ما أضعف حال الخدمة.

وكانت كثير من الأصوات سواء من شباب الكنيسة من أمثال شباب "مجلة مدارس الأحد"، التي كان يرأس تحريرها الشاب نظير جيد (البابا شنودة الثالث) من جانب، أو من الإكليروس من جانب آخر، تطالب البابا بالتخلي عن خادمه وتبني مطالب الإصلاح.

وفي في ظل رفض البابا يوساب الإستماع إليهم، أصدر المجمع المقدس في سبتمير 1955، قرارا بإبعاد البابا عن البطريركية وعودته لديره، وتشكيل لجنة ثلاثية لإدارة البطريركية، ولم تمر شهور حتى توفي البابا في 13 نوفمبر عام 1956، كل هذا يحدث والراهب مينا البراموسي، داخل قلايته متوحدا يصلي من أجل الكنيسة دون أن يفكر في التدخل لإصلاح الأوضاع.



مفاجأة الانتخابات

كان الجميع يتطلع لبطريرك ينتشل الكنيسة من تلك الأزمات، فتداولت أسماء المشاهير وأصحاب المواهب الإدارية بين تزكيات المرشحين للمنصب، قبل يقوم الأنبا أثناسيوس، قائم مقام البطريرك وقتها، بتزكية اسم القمص مينا البراموسي قبل إغلاق باب الترشيح.

وتم تصفية المرشحين إلى 5، لم يكن القمص مينا واحدا منهم، قبل أن يتنحى أحدهم عن الترشح لتضع لجنة الترشيحات اسم الراهب مينا بدلا منه، للالتزام بالعدد المنصوص عليه بلائحة انتخاب البطريرك، حتى يتم تصفيتهم إلى 3 بعد ذلك بالانتخابات التي حصل القمص مينا فيها على أقل الأصوات بين الثلاثة، قبل أن تختاره القرعة الهيكلية ليكون البابا رقم 116 في سلسلة بطاركة الكنيسة.

جسر الإصلاح

كان البطريرك الجديد يؤمن بأهمية التعليم والخدمة والصلاة في النهوض بالكنيسة، وامتلك رؤية ثاقبة في فرز واختيار معاونيه، فقرر أن يحتضن الشباب المثقف من الرهبان، فكانت أهم قراراته هي رسامة الأنبا شنودة كأول أسقف للتعليم (البابا شنودة الثالث)، ورسامة الأنبا صموئيل كأول أسقف للخدمات العامة، والأنبا غريغوريوس أسقفا للبحث العلمي، ولم يكن معروفا في ذلك الوقت فكرة رسامة أسقف على خدمة دون إيبارشية جغرافية، كما كان لرسامته الأنبا دوماديوس أسقفا للجيزة، والأنبا أثناسيوس أسقفا لبني سويف دورا كبيرا في النهوض بالعمل الكنسي.

فاستطاع البابا أن يجدد دماء قيادات الكنيسة بالشباب المتعلم الذي كان ينشد الإصلاح من جهة، وأن يهتم بالخدمة الاجتماعية والتعليم والرعاية من جهة أخر،ى على مستوى القاعدة، فهو وإن لم يفعل ذلك بنفسه فقد اختار الأنسب للقيام بهذا الدور، ولهذا وصفه البابا شنودة بأنه حلقة الوصل بين الجيل القديم والجيل الجديد.



اتساع الخدمة

وكان بناؤه لدير مارمينا بصحراء مريوط، جزءا من اهتمامه بالرهبنة وتعمير الأديرة، كما حرص على أن يحصل الكهنة على الرعاية الاجتماعية والتعليمية، وأن تقام القداسات والتسبحة بعد أن كانت تقام مرة واحدة في الأسبوع، وكثيرا ما كان يذهب في زيارات مفاجئة للكنائس ليتفقد أحوال الصلوات والخدمة، واهتم بأن تصل الخدمة للقرى والنجوع البعيدة، كما وضع البذرة الأولى للخدمة في المهجر، حينما أرسل القساوسة والخدام لأمريكا وكندا واستراليا والكويت.

كما حرص البابا كيرلس على أن يلتقي بالشعب، وأن يبقى بابه مفتوحا للجميع، ليرسي المبدأ الذي كان قد اندثر وقتها، وهو أن البطريرك أب للجميع قبل أن يكون رئيسا للأساقفة.



اهتم البابا كيرلس بإقامة علاقات المحبة مع الكنائس الأخرى، فكان يحظى باحترام وتقدير جميع رؤساء الكنائس حول العالم، فتواصلت الكنيسة القبطية في عهده مع مجلس الكنائس العالمي عام 1963، حيث تولى التواصل معهم الأنبا صموئيل والأنبا شنودة، اللذين رسمهما حديثا، فتوطدت العلاقات مع كنيسة روما، الأمر الذي مهد لإمكانية استعادة جسد مارمرقس من روما عام 1968، بعد غيابه عن مصر 1140 عاما.

كما اهتم بخدمة الكنيسة القبطية في إثيوبيا، واستطاع أن يحتوي بعض الخلافات التي ظهرت هناك، ورسم لهم مطرانا إثيوبيا كما طلبوا، ووقع اتفاقية تفاهم معهم، ورأس المؤتمر الذي عقد للكنائس الأرثوذكسية الشرقية بإثيوبيا في يناير 1965، كما ارتبط بعلاقة قوية مع إمبراطور إثيوبيا، هيلا سيلاسي.

وارتبط أيضا بمحبة قوية مع الرئيس جمال عبدالناصر، حتى أن الرئيس كان يستقبله في منزله لا بالقصر الجمهوري، وقام ببناء كاتدرائية المقر الببابوي المرقسي بالعباسية من أموال الدولة عام 1968، وطلب من أبنائه أن يشاركوه في التبرع من مصروفهم.


عهد جديد

دخلت الكنيسة القبطية عهدا جديدا مع البابا كيرلس، لدرجة أن البابا شنودة فور اختياره بطريركا خلفا له، قال إنه لن يفعل شيئا سوى إكمال ما بدأه سلفه.

حيث إن ازدهار الخدمة في المهجر، والاهتمام بالتعليم والرهبنة، وإقامة الحوارات مع الكنائس الأخرى، وانتشار الخدمة، وإن كان قد برز في عهد البابا شنودة، إلا أن البذرة الأولى قد وضعها البابا كيرلس خلال 11 عاما، تولى خلالها البابوية حتى رحيله، في مثل هذا اليوم في 9 مارس عام 1971.

وفي يوم 20 يونيو 2013، قرر المجمع المقدس برئاسة البابا تواضروس، الاعتراف بالبابا كيرلس السادس كأحد قديسي الكنيسة، رغم أن الأقباط اعتبروه كذلك حتى قبل رحيله.