التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 02:50 ص , بتوقيت القاهرة

أحكام أهل الذمة (6)

بعد أن انتهينا من سرد الأحكام الفقهية، التي حددت علاقة أهل الذمة بالدولة الإسلامية عبر التاريخ، واستشهدنا، في طيات ستة مقالات سبقت مقالنا هذا، بالعديد والعديد من الوقائع "التطبيقية" لتلك الأحكام التي شرطت العلاقة الرأسية بين خلفاء المسلمين والملايين من اليهود والمسيحيين، سنتوقف الآن عند المستوى الأفقي للعلاقة بين المسلم والذمي، أعني العلاقة بين المسلم، خارج مؤسسة الحكم، ونظيره النصراني - بلغة الفقه – تحديداً. وهي علاقة إما أن تكون عارضة أو دائمة بحكم الجيرة مثلاً. 


جاء في صحيح مسلم، قال رسول الله ?: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه». وهو حديث لا يحتاج إلى شرح أو تفصيل، ولعله يحتاج فقط إلى التعقيب عليه بسؤال مفاده:


فماذا إذا بدأوا هم بإلقاء السلام؟


تأتي الإجابة في أحاديث عديدة، نورد منها:


عن أنس بن مالك، قال رسول الله ?: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» رواه أحمد، الذي جاء في مسنده أيضاً: قال رسول الله ?: «إنا غادون على يهود فلا تبدؤوهم بالسلام، فإن سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» وفي موضع أخر: «إني راكب غدا إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم».


ويفسر ابن القيم هذه الأحاديث فيشرح لماذا يتوجب علينا أن نكتفي بـ «وعليكم» وأحياناً «عليكم» بدون الواو فيقول: تحية الإسلام يجب أن تصان، ولا يجب أن تبذل لغير أهل الإسلام من أهل الكتاب أعداء الله القدوس السلام. 


وبحسن بداهته المعهودة، يورد موقفا "عملي" للنبي محمد يعضد به صحة تفسيره فيقول: ولهذا كانت كُتب رسول الله إلى ملوك الكفار: «سلام على من اتبع الهدى» ولم يكتب ? لكافر: سلام عليكم أصلاً، فلهذا قال في أهل الكتاب: «ولا تبدؤوهم بالسلام». أي أنها كانت سنة عملية عن النبي طبقها في حياته، والسنة العملية تفوق في قدرها ومكانتها نظيرتها القولية كما هو معلوم. 


فماذا إذا مرض جارك المسيحي مثلاً؟


جاء في صحيح البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: «كان غلام يهودي يخدم النبي ? فمرض، فأتاه النبي يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فخرج النبي ? وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار».


وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب: «لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ? فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله ? لأبي طالب: أي عم! قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ». وتلك قصة مشهورة لا يخلو  كتاب سيرة أو تاريخ منها. 


من هذه الأحاديث استخلص الإمام أحمد إباحة الزيارة للمرضى من أهل الذمة، بيد أنها إباحة ليست على إطلاقها، إذ شرطها ابن حنبل بالمقدرة على دعوة المريض للإسلام وهو على فراش المرض، كما فعل رسول الله ?. وهو ما يؤكد عليه ابن القيم حين يقول: «إن أمكنه أن يدعوه إلى الإسلام ويرجو ذلك منه عاده». أي زاره في مرضه.


وبديهي أنه إذا انتفى هذا الشرط انتفت معه الإباحة، وهو الأمر الذي ذهب إليه إمام أهل السنة، لكن ليس بالبداهة، بل استناداً على ما جاء في حديث آخر لـ أنس بن مالك - رضي الله عنه - إذ يقول: «كان رسول الله ? إذا عاد رجلا على غير دين الإسلام لم يجلس عنده وقال: كيف أنت يا يهودي يا نصراني»؟ 


وللجيرة حقوق وشروط.. فما هي؟


ورد في الشروط العمرية وجوب استضافة أهل الذمة للمسلمين في منازلهم ثلاثة أيام، يستوي فيها فقراء المسلمين مع أغنيائهم بحسب ما يؤكد صاحب الأحكام إذ يقول: «أما الأغنياء فـ .. إذا لم يكن على أهل الذمة ضيافتهم فربما إذا دخلوا بلادهم لا يبيعونهم الطعام، ويقصدون الإضرار بهم، فإذا كانت عليهم ضيافتهم تسارعوا إلى منافعهم خوفا من أن ينزلوا عليهم للضيافة فيأكلون بلا عوض. وأما مصلحة الفقراء فهو ما يحصل لهم من الارتفاق، فلما كان في ذلك مصلحة لعموم المسلمين جاز اشتراطه على أهل الذمة». 


هذا بالنسبة للضيف السليم.. فماذا عن السقيم؟ 


تأتي الإجابة في موضع آخر يقول فيه: «وكما يجب عليهم إطعام الضيف وخدمته يجب عليهم القيام على المريض ومصالحه، فإنه أحوج إلى الخدمة من الصحيح». 


أما إذا كان الضيف لا يملك المال لعلاج نفسه، توجب عليهم أن يستضيفوه وينفقوا عليه إلي أن يبرأ من مرضه، مهما طالت المدة. وإذا لم يُكتب له الشفاء، وثبت أنهم قصروا في علاجه أو النفقة عليه، توجب على المسيحي دفع دية المسلم، إذ يعد وقتئذ قتيل. وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد مقتفياً فيه سيرة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.


وإذا جاور مسيحي مسلما في مكان السكن، جيرة دائمة، فلابد أن يُمنع من مطاولته في البناء، سواء كان الجار ملاصقاً أو غير ملاصق، إذ قال الشافعي رحمه الله: «لا يُحدثون بناء يطولون به بناء المسلمين». ويعقب تلميذ ابن تيمية علي مقولة إمام الوسطية فيقول: «وهذا المنع لحق الإسلام لا لحق الجار، حتى لو رضي الجار بذلك لم يكن لرضاه أثر في الجواز.. لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه».


ومعنى هذا الكلام أنه حتى لو تكرم المسلم ووافق أن يسكن جاره المسيحي في منزل أعلى من منزله، أو حتى في الطابق الذي يعلوه، فموافقته والعدم سواء، ذلك لأن الغاية من وراء هذا الحكم هي رفعة الإسلام والارتفاع بقدره، لا رفعة المسلم في شخصه. 


وقد انتهى الفقهاء إلى هذه النتيجة من مقدمتين مفادهما: أن أهل الذمة لا بد أن يكونوا أذلاء صاغرين مُحقرين. لذا؛ فلا يجب أن يعلوا بنائهم علي بناء المسلمين، هذه واحدة، أما الثانية فإنه قد جاء في حديث رسول الله: «إذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» والمرور في الطرقات شيء عارض، ومع ذلك يجب إذلالهم فيها، فما بالك بالمنازل التي هي محل دائم للإقامة! 


وحتى جيرة الأموات لها شروط، إذ أقر الفقهاء بأن يمنع أن تجاور قبور المسيحيين بيوت المسلمين أو قبورهم، وأثناء تشييع جنائزهم: فـ «ليس لهم أن يحملوا أمواتهم في أسواق المسلمين ولا في الطرق الواسعة التي يمر بها المسلمون، وإنما يقصدون المواضع الخالية التي لا يراهم فيها أحد من المسلمين»، كما نصت عليه الشروط العمرية، والتي جاء فيها أيضاً: «لَا نَرْفَعُ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا».


ويعقب ابن القيم على هذه النقطة فيقول إن رفع أصواتهم سواء بقراءة كتبهم أو النواح على مواتهم فيه إظهار لشعار الكفر! 



للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك: