التوقيت الأحد، 05 مايو 2024
التوقيت 06:02 م , بتوقيت القاهرة

التتار الجدد الذين يقتلون التماثيل ويذبحون الكتب

يكره المكفرون والظلاميون الفنون والآداب والمرأة.. وهواء البحر.. وبياض الياسمين وفراشات الحب.. وأسماء الشجر.. وعناوين العصافير وقصائد العشق.. وأسراب النورس.. وشواطئ الحرية.. والحداثة.. عيونهم زجاجية.. لكنّها لا تعكس ضوءًا ولا بشرًا.. مطفأة  كعيون الأموات أحداقهم خرساء وسط جوقة من عميان.. وجوههم من خشب وبازلت.. وملامحهم من أسمنت. 


ضيقوا علينا الوطن فصار مدنًا من ملح وليس أرضًا من بشر.. أضحى وطنًا بلا خريطة.. ولا تفاصيل.. أتوا يحملون التوكيلات الإلهية لفرض فتاويهم المسمومة وتحريماتهم المفزعة.. احتكروا كتابة التاريخ.. وتغيير مناهج وعلوم الحضارات ليدونوا أسماءهم في قوائم المبشرين بدخول الجنة.


منذ أكثر من عشر سنوات وهؤلاء الإرهابيون الذين يشيعون ثقافة التحريم والتجريم والمصادرة قد أثروا تأثيرًا خطيرًا في العامة الذين اعتبروا أن تلك الخزعبلات أوامر ونواهي دينية.. ومسلمات فقهية لا تقبل المناقشة والمراجعة مما دفع سيدة ملتاثة منذ فترة إلى أن تقفز سور فيلا متحف المثال "حسن حشمت" وتحطم أحد التماثيل الموجودة في حديقة الفيلا باعتبار أنه صنم.


وفي ظل تنامي التيارات السلفية والوهابية بعد وصول الإخوان إلى الحكم وتصاعد نشاط التكفيريين الذين وصفوا الحضارة الفرعونية بالعفن، واعتبروا الآلات الموسيقية غير جائزة شرعًا.. والموسيقى حرام مطالبين بإلغاء النشيد الوطني وتحية العلم لمخالفتها الشريعة الإسلامية لكونها بدعة.. والمحاولات المتكررة لإلغاء الحفلات الموسيقية الغنائية.. وبروفات العروض المسرحية وتغطية صدور النساء في لوحات الفنان "عبد الهادي الجزار".


في ظل هذا الهوس واللوثة العقلية فإني على عكس الكثيرين لم أندهش حينما طالب الشيخ "الطالباني" (مرجان الجوهري) بتحطيم الأهرامات وتمثال (أبو الهول) باعتبارها أوثانًا تعبد حتى الآن.. بل إن الذي أدهشني كل الدهشة- وقتها- هو استضافة مثل تلك الشخصيات ومناقشتها في البرامج التلفزيونية بالفضائيات بدلاً من الدعوة إلى محاكمتهم بتهمة التحريض والسعي إلى تخريب الآثار والتراث والفنون والعدوان على الحضارة والثقافة والتاريخ.


وفي أثناء وصول الإخوان إلى الحكم.. بدأوا في قتل التماثيل فأطاحوا برأس تمثال "طه حسين" في المنيا.. ونقبوا تمثال "أم كلثوم" في المنصورة.. ومضوا بنا في قطارات صدئة إلى "كابول" ليذبحون الكتب.


وفي "كابول" المصرية داهم زوار الفجر سوق كتب "النبي دانيال" وسط الإسكندرية، مدعمين بقوات الأمن المتمثلة في شرطة المرافق بقيادة جنرال كبير برتبة عميد بالإضافة لفرق الحماية المدنية (الإسعاف والمطافئ) مدججين بالمعدات الثقيلة لإزالة أكشاك الكتب.. وأسفر الاعتداء الغاشم عن ظفر مؤزر بتحطيم تلك الأكشاك ومصرع مئات الكتب في شتى أنواع المعرفة.. فتناثرت أشلاؤها على الأرصفة.. لقد أتوا بهذا الجيش العرمرم واحتشدوا بذلك العتاد الضخم متسللين في الفجر خوفًا من عدوهم اللدود.. الكتب التي تبدو وديعة مسالمة لا تنوي شراً ولا تضمر كراهية.. لكنها في غضبتها ضد قوى التخلف.. والجهل تبقى أقوى وأشد بأسًا وأعظم هولاً.


إن هجومهم البربري هذا يعكس جزعًا دفينًا من الثقافة والمثقفين.. من الأوراق التي تفضح الاستبداد.. والسطور التي تندد بالفاشيين وصفحات التاريخ التي تنتصر للتنوير وللحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. وتمهد الطريق للنهضة والتنمية.. الرقي والتقدم.. وتدافع عن حرية الإبداع والتفكير والاعتقاد.. وتقديس العقل واحترام المرأة.. والاحتفاء بالفنون.. وهي التي صنعت حضارات إنسانية عظيمة أضاءت الوجود بنور العلم والفكر والمعرفة والفن.. وقاومت تيارات أصولية ظلامية تعود بالبشرية إلى عصور محاكم التفتيش.. وثقافة الهكسوس.. وزمن العصور الوسطى.. وعهود الجاهلية والتصحر.


وكان من الطبيعي والمتوقع حينما يأتي الغزاة من التتار الجدد الذين خرجوا من معطف الإخوان والسلفيين والتيارات الظلامية التي تمارس الإرهاب باسم الدين – والدين منهم براء – ليفجروا مكتبة "الموصل" المركزية في العراق.. ويحرقوا محتوياتها من آلاف الكتب.. كما حرقوا مئات الكتب في المكتبات الخاصة والجامعية داخل المدينة أمام جموع الناس وحرقوا (100) ألف كتاب في محافظة "الأنبار" وقاعة الإعلام والمسرح في جامعة الموصل في أكبر الأعمال التدميرية الإجرامية للكتب في تاريخ البشرية .. أسوة "بالتتار" الذين أحرقوا ودمروا المكتبة العظيمة في بغداد التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في (600) عام .. فهي من أعظم المكتبات على وجه الأرض في ذلك الزمان.


لكن لأن الإبداع لا يموت.. وحرية الرأي والفكر لا يمكن لأعداء العقل سحقها.. وحركة التاريخ تنحاز للحداثة والتجديد والتطور والتنوير وحرية الاختلاف.. ولا تنتصر للجهل والجمود والظلام والإرهاب.. سوف تبقى الفنون والآداب ما بقيت الإنسانية.. صامدة.. في الزمن.. ويمضي المكفرون والظلاميون وأعداء الحرية والحياة إلى مزبلة التاريخ.