التوقيت الجمعة، 10 مايو 2024
التوقيت 11:10 م , بتوقيت القاهرة

نعم للتفرقة.. نعم للانحياز

قد يختار أبٌ أن يُفرّق في المعاملة بين أبنائه أو أن يُميز أحدهم دون أن يجد نفسه مضطرًا لتبرير سلوكه هذا أمام أبنائه الآخرين. فالقانون يُلزمه كأب الاعتناء بأبنائه وعدم إيذائهم، لكنّه لا يُلزمه أبدًا بالمساواة بينهم.


ما يلزمه بهذه المساواة هي الطبيعة الأبوية التي تفترض عدم جواز الانحياز لابن دون الآخرين دون أن يكون هناك مبرر مقنع لذلك. والأب الذي يخالف هذه الطبيعة القائمة على أحكام القلب ـ حتى لو لم يخالف القانون ـ قد يعرض نفسه لسخط أبنائه وربما لتمردهم.


الدولة ـ وعلى عكس هذا الأب ـ من واجبها أن تُفرق في المعاملة بين المواطنين، بل وعليها أن تنحاز لبعضهم دون البعض الآخر وأن تعلن عن انحيازها بوضوح. ويأتي هذا الانحياز تماشيًا مع طبيعتها الأصيلة المناقضة تمامًا للطبيعة الأبوية. فإنْ كانت الأبوة تقوم على الحب والرحمة، فالدولة تقوم على القوة والعدل. وإن كان العدل يتطلب أن يقف جميع المواطنين سواسية أمام القانون، فهو يتطلب أيضًا أن تنحاز الدولة ـ حارسة القوانين ـ إلى المواطنين الذين يلتزمون بالقانون في مواجهة من قرروا خرقه. والدولة التي تناقض طبيعتها تلك تعرض نفسها ـ كالأب الظالم ـ للسخط والتمرد.


تظلم الدولة "المواطنين" الملتزمين بالقانون (وهم وحدهم أصحاب الحق في هذا اللقب) عندما تتهاون في تطبيقه على المخالفين. تتجاهل الدولة المواطنين جميعًا عندما تضع اعتبارات سياسية أو دينية أو اجتماعية أو اقتصادية في حسبانها في موقع أهم من القانون، حتى لو بدا ذلك في مصلحة الأغلبية أو تماشيًا مع رغباتها.


إن من حق الدولة أن تسْعَد بتأييد المواطنين لها ومناصرتهم لها في تحدياتها الداخلية والخارجية. ولكن هذا التأييد لا يعني أبدًا أن تعاقب الدولة أعداءها والخارجين عليها فحسب، بل يجب معاقبة من يقفون في صفوفها كذلك إن هم خرقوا القانون.


في الوقت الذي تصدر فيه الدولة قانونًا جديدًا للكيانات الإرهابية لابد من احترامه وتفعيله، يجب أيضًا أن يشعر كل الناس ـ باختلاف انتماءاتهم ـ أن ما يصدر في البلاد من قوانين لا هدف له غير حفظ الأمن والسلام. ولا يتحقق هذا الشعور عندما يفلت مخطئ من عقوبة أيًا كانت الفئة التي ينتمي إليها.


إن الحرص على تماسك المؤسسات السياسية والأمنية والاقتصادية والدينية لا يبرر التغاضي عن أخطاء من يقومون عليها. ومهما كانت حساسية الوضع فإن عقاب من يخطىء والإعلان عن هذا العقاب لهو أفضل ألف مرة من الكتمان. الكتمان يسيء للسمعة ويفتح أبواب الشائعات وإثارة الضغائن.


ستجد الدولة دائماً من يبرر أمامها الجرائم التي ترتكب في حقها وحق مواطنيها تحت العناوين البراقة. وستجد الدولة دائمًا من يبرر لها ما يرتكب باسم الدفاع عنها من جرائم تحت عناوين أكثر بريقًا. وهي ليست بحاجة لأن تخاف من هؤلاء أو تراضي أولئك. فالعناوين لا تربح المعارك، بل تربحها التفاصيل المضنية.
 
التفرقة بين حق الدولة وإساءة استغلال النفوذ ضروري، والانحياز للعدل يأتي قبل الانحياز للقوة. فالدولة ليست أبًا لأحد من أنصارها أو من أعدائها.


الدولة أمٌ للقانون فقط. ولنتذكر دومًا أن كل الحروب التي تخوضها دولتنا هي في الأساس ضد خارجين على القانون.