التوقيت الأحد، 28 أبريل 2024
التوقيت 10:52 م , بتوقيت القاهرة

أحكام أهل الذمة(4)

وصدر في عهد المتوكل مرسومٌ بقرار جاء فيه: "إن الله اصطفى الإسلام دينا فشرّفه، ونصره وأظهره وفضّله، فهو الدين لا يُقبل غيره. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.. بعث به صفيه وخيرته من خلقه محمدا ? فجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين.. أسعد به أمته وجعلهم خير أمة أخرجت للناس. وأهان الشرك وأهله، ووضعهم وصغرهم وقمعهم وخذلهم، وتبرأ منهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة.


وقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.. وطبع على قلوبهم وخبث سرائرهم وضمائرهم، فنهى عن ائتمانهم والثقة بهم لعداوتهم للمسلمين، وغشهم وبغضائهم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.. وقال: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وقال: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".


هل هناك حاجة لأن أذكر أن من صدر عنه هذا المرسوم لم يكن رجل دين، بل كان حاكما سياسيا، يحكم إمبراطورية مترامية الأطراف، كانت النسبة الأكبر من شعوبها من أهل الكتاب، من المسيحيين بالذات؟!


وبعد هذه الافتتاحية، التي جاءت أشبه بخُطبة منبرية حُشدت فيها النصوص القرآنية- كمقدمة شرعية- صدرت القرارات الإدارية، وجاء فيها باختصار: «انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناسا يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم.. فأعظم ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله منه، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحسمه والنهي عنه، ورأى أن يكتب إلى ولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم، والإشراك لهم في أماناتهم وما قلدهم أمير المؤمنين إياه، وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة وحسن الرعاية والكفاية ما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله المكذبين برسله الجاحدين لآياته الجاعلين معه إلها آخر.. والله يعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وحزبه".


 وهكذا؛ فقد كان هذا هو دأب الخليفة المسلم وسعيه الدؤوب؛ إذلال الشرك وأهله، أعني: إذلال من يُفترض أنهم شعبه!


ثم مرة أخرى وفي المرسوم ذاته، يؤكد على المرسل له فيقول: "لا يُستعان بأحدٍ من المشركين.. ولا يعلمن أمير المؤمنين أنك استعنت ولا أحد من عمالك وأعوانك بأحد من أهل الذمة في عمل، والسلام".


وتكرر الأمر عينه في زمن الخلفاء؛ المقتدر بالله، والراضي بالله، والقادر بالله، والقائم بأمر بالله الذي كان قد ولى بعض رجال الكنيسة المصرية وعددا من الأقباط وظائف كتابية وإدارية، لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، إذ عاد ليقتفي سيرة أبيه القادر- الذي طبق الشروط العمرية بعد انقطاع - في إذلالهم.


وعن ذلك يقول ابن القيم حرفيًا: ثم انتبه الآمر بالله من رقدته، وأفاق من سَكْرته، وأدركته الحمية الإسلامية والغيرة المحمدية، فغضب لله غضب ناصر للدين وبار بالمسلمين، وألبس الذمة الغيار وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله تعالى أن ينزلوا بها من الذل والصغار، وأمر ألا يولوا شيئا من أعمال الإسلام، وأن يُنشئوا في ذلك كتابا يقف عليه الخاص والعام.


يا إلهي! أكل هذا من أجل قراره بطرد الأقباط من وظائفهم؟!


وكسابقيه، كتب مرسوماً بدأه بمقدمة عمد فيها لإظهار علّو الإسلام على غيره من الأديان التي يعتنقها أكثرية شعبه، إذ حُشرت فيها كل المعاني الدينية تصغيرًا وتحقيرًا، فافتتحه يقول:


"الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه، والمجيب دعاء من يدعوه بأسمائه، المنفرد بالقدرة القاهرة، المتوحد بالقوة الظاهرة.. الذي شرّف دين الإسلام وعظمه.. وفضله على كل شرع سبقه وعلى كل دين تقدمه.. وصلى الله على الذي رفعه باصطفائه إلى محله المنيف، وبعثه إلى الناس كافة بالدين القيم الحنيف.. فكانت نبوته لظهر الكفر قاصمة، وشريعته لمن لاذ بها من كل شر عاصمة، وحججه لمن عاند وكفر خاصمة، حتى أذعن المعاندون واعترف الجاحدون وذل المشركون.. وأشرق وجه الدهر برسالته ضياء وابتهاجا، ودخل الناس بدعوته في دين الله أفواجا، وأشرقت على الوجوه شمس الإسلام، واتسق قمر الإيمان، وولت على أدبارها مهزومة عساكر الشيطان".


وبالطبع لم يكن الوعظ هو  الغرض من تلك الافتتاحية، بل إضفاء الشرعية على القرارات السياسية، وهو ما نقرأه في الفقرة التالية من المرسوم حين يقول: «إن أمة هداها الله إلى دينه القويم، وجعلها دون الأمم الجاحدة على صراط مستقيم، توفي من الأمم سبعين.. حقيقة بأن لا يوالي من الأمم سواها، ولا يُستعان (أي يوظف) بمن خان الله، خالقه ورازقه وعبد من دونه إلها، فكذب رسله وعصى أمره واتبع غير سبيله واتخذ الشيطان وليا من دونه".


وبالطبع أيضا لا يتوقف ما يرمي إليه المرسوم عند حدود هذا القانون الإداري، بل يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ يقول ابن القيم: "ومعلوم أن اليهود والنصارى موسومون بغضب الله ولعنته، والشرك به والجحد لوحدانيته، وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوه هداية سبيل الذين أنعم عليهم.. ويجنبهم سبيل الذين أبعدهم من رحمته وطردهم عن جنته، فباءوا بغضبه ولعنته من المغضوب عليهم والضالين. فالأمة الغضبية هم اليهود بنص القرآن، وأمة الضلال هم النصارى المثلثة عباد الصلبان، وقد أخبر تعالى عن اليهود بأن لهم الذلة والمسكنة والغضب فقال تعالي: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ. وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين حكما ترتضيه العقول، ويتلقاه كل منصف بالإذعان والقبول، فقال: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.


ثم حكم عليهم حكما مستمرا في الذراري والأعقاب، على مر السنين والأحقاب، فقال وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ فكان هذا العذاب في الدنيا ببعض الاستحقاق، ولعذاب الآخرة أشق وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ. فهم أنجس الناس قلوبا، وأخبثهم طوية، وأردؤهم سجية، وأولاهم بالعذاب الأليم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فهم أمة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا. وأخبر عن سوء ما يستمعون ويقولون، وخبث ما يأكلون ويجمعون فقال: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.


وقطع الموالاة بين اليهود والنصاري وبين المؤمنين، وأخبر أنه من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين فقال وهو أصدق القائلين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ. وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلى فساد العقل والدين فقال فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ. ثم أخبر عن حبوط أعمال متوليهم ليكون المؤمن لذلك من الحذرين. وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين وحذره نفسه أشد التحذير".


وبعد كل هذا الإرهاب، كان التذكير بضرورة امتهان أهل الذمة وإهانتهم، باعتبار أن في ذلك قربى إلى الله، فقال: "فمن ضروب الطاعات إهانتهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون، ومن حقوق الله تعالى الواجبة أخذ جزية رءوسهم التي يعطونها عن يد وهم صاغرون".


لقد كان من الأهمية بمكان أن نُورد نصوص المراسيم (الشرعية/ السياسية) الصادرة باسم الإسلام من أعلى سلطة في دولة الخلافة، لفئة أهل الذمة؛ أي المسيحيون بالدرجة الأولى ثم اليهود، تلك الفئة التي كانت على مدار قرون تُمثل الأكثرية في مصر وربوع الإمبراطورية، ذلك لأنها وثائق كاشفة، وكدت أن أقول فاضحة، توضح لنا كيف كان الخلفاء يعاملون مواطنيهم، وكيف كانوا يتعاطون مع رعاياهم، وكيف كانت الشعوب، وفي مقدمتها شعبنا المصري، تعيش في كنف العرب، في ظل ما يسمى بالفتح الإسلامي.


ولعل معاني الذل والتحقير والتصغير والتمييز الديني التي اكتوى بنارها أجدادنا لا تحتاج إلى شرحٍ أو تفسير، فقد أدت بلاغة المراسيم، بما حُشر فيها من نصوص قرآنية، تلك المهمة ووفت. ولعل القارئ لا يحتاج إلا لشيء من الخيال يعود به إلى الوراء قليلاً، ليتخيل نفسه مصريا قبطيا توجه إليه سلطات الاحتلال العربي خطابات بها كل هذه الامتهانات لشخصه ولدينه، ثم يعود ليسأل المضللين الذين يروجون لترحيب المصريين بالمحتل: أما من حمرة خجل؟! 


إذن؛ يمكننا الآن، وبعد أن استعرضنا سريعًا خير عصور الخلافة، ووصلنا إلى الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري، أن نوجز ما أوردناه في مقالنا هذا وسابقه بالقول: بداية من دولة الخلافة الراشدة ورمزها الأول الفاروق عمر بن الخطاب، ومرورًا بـ عمر بن عبد العزيز رمز الدولة الأموية الأشهر، وانتهاءً بالدولة العباسية برموزها أبي جعفر المنصور، والمهدي، وهارون، والمتوكل، والمقتدي، والقادر، والقائم بأمر الله، كان هذا هو حال الأكثرية العددية من الشعب، وكانت القاعدة الشرعية الحاكمة للقرارات الإدارية التي تخصهم: ستدفعون الجزية أذلاء صاغرين، وفي الوقت عينه لا يحق لكم  تولي أية مناصب في الدولة تعينكم على دفعها!


فهل تغير الحال بعد أن غابت شمس الدولة العباسية؟ هذا هو السؤال الذي سنجيب عليه في المقال القادم إن شاء الله، لنختم به  هذه الجزئية من بحثنا.


للتواصل مع الكاتب عبر فيس بوك