التوقيت الأحد، 05 مايو 2024
التوقيت 04:38 م , بتوقيت القاهرة

الصبر الاستراتيجي.. بدايته في أمريكا ونهايته في مصر

في مقالٍ قديم في "دوت مصر" في أول أسابيع تأسيسه، بعنوان "كيف تُفكر نخبة الحكم الجديدة في مصر؟"، ذكر كاتب هذه السطور أن صُناع القرار الاستراتيجي في مصر لن يسيروا بجوار الحائط مثلما كان العهد بسياسة مصر الخارجية خلال العقود الثلاثة الماضية، وأنهم سيقومون باتباع سياسة خارجية مُبادِرة.


ويبدو في هذه الأيام أن كثيرين أصبحوا يتفقون مع وجهة النظر تلك، خاصة بعد قيام مصر بأول عمل عسكري منفرد منذ قرابة أربعين عامًا.


والحقيقة أن هناك حزمة من الأسباب تُرجح أن الضربة الجوية التي قامت بها مصر ضد تنظيم داعش في ليبيا، ردًا على اغتيال 21 مواطنًا مصريًا مسيحيًا، ليست مجرد بداية لضربات أخرى أو عمليات عسكرية أخرى في ليبيا، وإنما بداية في الحقيقة لحقبة جديدة من الانطلاق المصريّ خارج الحدود على خطى مشروعي محمد علي في القرن التاسع عشر وجمال عبد الناصر في القرن العشرين، لتكون التجربة الثالثة في القرن الثالث على التوالي. 


وقبل إساءة الظن بهذا المقال واعتباره يدعو لمشروع مصريّ إمبراطوري في المنطقة، ينبغي التركيز على نقطتين.


 الأولى: أننا تعودنا في مصر على أن المقال الصحفي يجب أن يكون مقال رأي، فإذا لم نجد الرأي أقحمناه بالقوة في جوف الكاتب. والحقيقة أن هناك نوعا آخر من المقالات وهو المقال التحليلي الذي يحاول فهم الواقع كما هو، تاركًا تكوين الآراء للقراء ولكتّاب آخرين.


أما النقطة الثانية فمعنية بتوضيح أن المقصود في الفقرة السابقة بمشروعي محمد علي وعبد الناصر، هو ذلك النمط الذي يُمكن توصيفه بالدور الخارجي النشيط والانخراط في إدارة شؤون الإقليم استنادًا إلى "وجود" القدرة العسكرية وتوفر الإرادة السياسية، وهذا لا يعني بالضرورة هيمنة أو قيادة منفردة، فقد يكون الدور النشط المبادِر في إطار تحالف إقليمي أو دولي، كما أنه بالطبع لا يُشير إلى نتيجة هذا المشروع أو هذا الدور، فلهذا كله محددات أخرى.


وعودة للفكرة الرئيسية في هذا المقال: ما هي حزمة الأسباب التي تدفعني لترجيح أن تتجه مصر للقيام بدور إقليمي يختلف كليةً عن خطها المحافظ الدفاعي السابق في السياسة الخارجية؟


السبب الأول جيو- استراتيجي قد لا يحتمل كثيرًا من النقاش حوله: مصر لديها تقريبًا الجيش المُحارب الوحيد في منطقة الشرق الأوسط العربيّ.


أعلم بالطبع أن هناك جيوشًا في الخليج. لكنّها لا تمتلك خبرة وتجربة النار التي يمتلكها الجيش المصري سواء في حروبه على مدار تاريخ دولة ما بعد الاستقلال أو في حربه الأخيرة - الجادّة - ضد الإرهاب في سيناء.


والواقع أنه بعد تدمير جيوش العراق وسوريا وليبيا، فمن المؤكد أن تغيرًا استراتيجيًا ضخمًا قد حدث في منطقة الشرق الأوسط العربي، إذ ازدادت أهمية مصر الاستراتيجية بشكلٍ حاد.


قُلْ ما تشاء عن الأخلاقيات والمثاليات، الواقع غالبًا يفرض نفسه عبر التاريخ عبر نمط متكرر، وهو أن توفّر وضع استراتيجي متميز في لحظة ما يدفع لاستغلاله لصالح تحقيق مزيدٍ من الأمن لصالح الدولة.


السبب الثاني يتعلق بالأمن القومي المصري.


قد تعتبر يناير ثورة عظيمة، وقد تعتبرها مؤامرة كارثية، أو تجمع بين العاملين. بغض النظر عن رأيك في يناير، فالثابت أنها شهدت انهيارًا لبعض أهم مؤسسات الدولة.


لا يوجد تهديد للأمن القومي لأي دولة يفوق الهجوم المباشر على مؤسساتها، خصوصًا عندما تشارك فيه جهات أجنبية. لا داعي هنا لإعادة الحديث عن أدوار حماس وحزب الله وقطر وتركيا. بعد أربع سنوات من يناير اتضحت الصورة بشكل لا يضطرنا لإعادة ما هو معروف بالضرورة عن أدوار هذه الكيانات والدول قبل وأثناء وبعد يناير.


بالنسبة لمن يحكم الآن، فإن سياسة "المشي جنب الحيط" التي اتبعتها مصر إذن على مدار عقود، لم تعصمها من الهجوم الخارجي ضدها، بل وربما أدت لاستباحتها في أعين المنافسين الإقليميين الآخرين.


 هذا لا يمنع أن هذه السياسة - مبدأ مونرو المصريّ أو سياسة العزلة المصرية- والتي انتقدها المصريون كثيرًا-  قد أثمرت بدون شك فترة طويلة من الاستقرار والهدوء تم خلالها تقوية بعض المؤسسات - وخاصة السيادية - حتى استطاعت هذه المؤسسات الصمود خلال 4 سنوات عاصفة هي سنوات الجحيم العربي، ونجحت فيما لم تنجح فيه غيرها من مؤسسات الدول التي تعرّضت لنفس التحدي خلال نفس الفترة.


لا يوجد- في اعتقادي- داعٍ في هذا السياق للحديث عمّا هو معلوم أيضًا بالضرورة عن خطر الإرهاب الذي انفجر على حدود مصر الشرقية والغربية وفي قلبها كذلك، والذي لا يُمكن لأي دولة مواجهته من داخل أرضها فقط دون تعقب داعميه ومموليه وخالِقي أُطُرِهِ التنظيمية واللوجيستية. 


السبب الثالث يتعلق ببنية النظام الدولي.


لم يعد خافيًا على أحد أن النظام الدولي يتعرض لحالة من عدم الاستقرار لأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة. من ناحية هناك تغيرات حقيقية في الجزء الغاطس من جبل جليد موازين القوى العالمية يُمكن تلخيصها بمثال واحد بسيط، وهو ارتفاع الناتج المحلي الصيني (الاسمي وليس بمعيار القوة الشرائية) كنسبة من الاقتصاد العالمي لتصل إلى نحو 15? بعد أن كانت حوالي 4? عام 1985، وانخفاض نسبة الولايات المتحدة لتصبح حوالي 19? بعد أن كانت 25? تقريبًا عام 1985).


ومن ناحية أخرى هناك تصرفات انفرادية تقوم بها روسيا لا يُمكن وصفها إلا بأنها أول تحد جدي لنظام ما بعد الحرب الباردة. في آخر أعدادها وضعت "الإيكونوميست" صورة الرئيس الروسي مع عنوان ذي دلالة "حرب بوتين ضد الغرب".


ومن ناحية ثالثة لم يعد سرًا أيضًا - إذ صرّح رئيس هيئة الأركان الأمريكية مارتن ديمبسي في حوار شهير منذ شهور بذلك علنًا - بأن الولايات المتحدة - والتي كانت قد أصبحت في وقت ما لاعبًا إقليميًا مباشرًا في الشرق الأوسط بقواتها في العراق - تقوم بالفعل بإعادة انتشار لقواتها - دعنا لا نقول انسحاب من بعض مناطق نفوذها، مع الاعتماد الأساسي على "تمكين" الحلفاء الإقليميين من حفظ الأمن والاستقرار في أقاليمهم بمعرفتهم.


 أعلن كذلك الرئيس الأمريكي منذ أيام أمام الكونجرس عن عقيدته الجديدة للأمن القومي، والتي أسماها الإعلام الأمريكي "الصبر الاستراتيجي". دلالة الاسم واضحة والضجة المُثارة داخل الولايات المتحدة حول الاستراتيجية الجديدة يُمكن متابعتها، بل يجب في الواقع متابعتها بدقة.


وبشكل عام فالتحولات الأمريكية لا يجب أن تُدهش أحدًا، إذ إنها طبيعية ومتسقة مع تغير موازين القوى النسبية في العالم. بالطبع كل ما سبق لا يعني على الإطلاق أن المقال يقترح أن أمريكا إلى زوال أو أنها تسقط، المعنى في هذا السياق محدد، وهو أن هناك تغيرًا نسبيًا يسمح لقوى إقليمية منافسة أن يتمدد نفوذها داخل أقاليمها وفقًا لمعادلات جديدة تختلف عن السائدة حاليًا.


هذه المعادلات الجديدة قد تؤدي إلى نظام دولي متعدد الأقطاب أو قد لا تؤدي، ولكن من المؤكد أنه سيكون نظامًا مختلفًا بشكل واضح عن نظام ما بعد 1991. 


السبب الأخير، يتعلق بأشخاص صناع القرار في مصر.


الأسباب الثلاثة الأولى تُمثل الإطار أو البنية. يأتي بعد ذلك دور القيادة السياسية التي يكون عليها صنع القرارات المباشرة التي إمّا أن تتوافق وتنسجم مع تغيرات البنية الدولية والإقليمية (هيكل القوى المادية والتحالفات)، فيتحقق عندئذ نجاح السياسة الخارجية، وإما أن يحدث خطأ في قراءة محددات البنية الدولية يترتب عليه تمدد النفوذ بأكثر مما تستطيع القوة الفعلية حمايته، فتحدث - لا قدر الله - خسارة ضخمة يدفع ثمنها باهظًا أجيالٌ متلاحقة.


  يُمكن الزعم بأن هناك درسين أساسيين أثرّا في توجهات الرئيس السابق مبارك خلال فترة حكمه بأكثر من غيرهما: مظاهرات يناير 1977 وانصب تأثيرها على الاقتصاد، ودرس هزيمة 1967 وانصب تأثيره على اتباع سياسة خارجية واقعية بدون مثاليات أيديولوجية أو شعبوية من أي نوع ومهما كان تأثير ذلك على شرعية النظم الداخلية.


عايش جيلا السادات ومبارك 1967 كمسؤولين سياسيين أو كضباط جيش. الأثر النفسي لهذه الهزيمة، لا بد أنه كان - وعن حق - كبيرا وهائل التأثير. بعد الارتفاع الشاهق لعنان السماء مع عبد الناصر أتَى السقوط المفاجئ والسريع والمتناقض تمامًا مع تصريحات آلات "البروباجاندا" الناصرية. هذه صدمة لا يُمكن أن ينتج عنها سوى تغيرات استراتيجية كبيرة تمثلت في سياسة خارجية مختلفة لمصر على مدار 40 سنة.


الزمن يبدو أنه يمحو الكثير من الآثار النفسية السيئة. النخبة الحاكمة الحالية تنتمي لجيل أحدث سنًا من نخبة يوليو بامتداداتها الجيلية المختلفة وصولًا للسيسي. كان السيسي سنة 1967 يبلغ من العمر 13 عاما. عدم المعايشة لهذه التجربة من داخل القوات المسلحة حينئذٍ قد يكون قد خفف من ثِقَل الاتجاه للمحافظة والمَيْل لسياسة الصبر الاستراتيجي. يبدو أن هذا الجيل أكثر استعدادًا للتفاعل الإيجابي مع المحددات البنيوية الموجودة في الواقع حاليًا (الأسباب الثلاثة الأولى في هذا المقال).


خلاصة ما سبق، العملية العسكرية ضد داعش في ليبيا قد ينبغي قراءتها في إطار أوسع كثيرًا من داعش، ومن ليبيا.