التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 11:01 ص , بتوقيت القاهرة

للمرة الثانية منذ قرون.. الكنائس القبطية مهجورة في ليبيا

ارتبطت ليبيا منذ العصور الأولى للمسيحية ارتباطا وثيقا بكنيسة الإسكندرية، ليس فقط لكونها أولى المناطق التي بشر فيها مرقس الرسول، مؤسس كرسي الإسكندرية وبطريركها الأول، بالمسيحية في القرن الأول الميلادي، ولكن أيضا لتبعية مسيحييها على مدى قرون للكنيسة القبطية.

وبعد خلو كنائس الأقباط بليبيا بسبب استهدافهم من قبل الميليشيات المسلحة في السنتين الأخيرتين، أعاد ذلك المشهد تكرار ما حدث من انتهاء للوجود المسيحي والقبطي بشكل خاص بليبيا منذ عدة قرون.

بنتابوليس.. الخمس مدن الغربية

ارتبطت ليبيا بلقب بطريرك الكنيسة القبطية نفسه، حيث يدعى البطريرك يوم تنصيبه "بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية في مصر وإثيوبيا وإريتريا والنوبة والسودان، والخمس مدن الغربية وسائر أقاليم الكرازة بالمهجر".

وتقع "الخمس مدن الغربية" حاليا بولاية "برقة" بليبيا، وقد أنشأها الإغريق بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد وسموها باسم "بنتابوليس" Pentapolis (أي المدن الخمس)، وهي: سيرين (القيروان)، وبرنيق (بنغازي)، وباركا (المرج)، وطوشيرا (توكرة)، وبولونيا (سوسة).

 

كرازة مرقس بليبيا

لم تكن ليبيا بالنسبة لمرقس الرسول مجرد مكان بٌشر فيه بالمسيحية، بل كانت هي مسقط رأسه، حيث ولد بمدينة سيرين رغم أن والديه كانا من اليهود المهاجرين، وكانت "بنتابوليس" في ذلك الوقت تشهد تنوعا ثقافيا ودينيا وفلسفيا، ما بين ليبيين أصليين ورومان ويونانيين و يهود، وكانت اللغة والثقافة اليونانية هي الأولى عندهم، ما مكن مرقس من إتقان مختلف العلوم باليونانية واللاتينية، والعبرية.

قبل أن يقرر هو ووالديه الهجرة إلى موطنهم الأصلي بفلسطين ليلتقي ببطرس لرسول، الذي كانت تجمعه صلة قرابة بوالد مرقس، ليتحول بيته فيما لمكان اجتماع السيد المسيح بتلاميذه، ولما جائته فرصة التبشير للأمم منفردا في حوالي عام 58م، أختار أن يذهب مرقس إلى مسقط رأسه، بنتابوليس.

ويؤكد الأسقف والمؤرخ القبطي ساويرس إبن المقفع في موسوعته "تاريخ البطاركة" أن مرقس استطاع أن يجعل كثيرين من أهل ليبيا يعتنقون المسيحية، وأقام هناك عدد من الخدام والقسوس لخدمة الكنسية.

قبل أن يذهب للإسكندرية ليبشر هناك، ليعود لها بحوالي 3 سنوات لليبيا ليطمئن على أحوال الكرازة بها و قد سميت إحدى مدن ليبيا فيما بعد نسبة له "من مصر أتى" وهي "مصراتة" قبل أن يذهب لأفسس ثم روما ثم للإسكندرية ليُقتل هناك.

لتظل منطقة بنتابوليس تحت رعاية الكنيسة القبطية و هو ما يؤكده القانون السادس من قوانين مجمع نيقية المسكوني (325 م): "فلتحفظ العادات القديمة التي في مصر وليبيا والخمس مدن الغربية في أن أسقف (بابا) الإسكندرية يكون له السلطان على هذه كلها".

اختفاء المسيحية في ليبيا للمرة الأولى

يختلف المؤرخون فيما بينهم حول زمن انتهاء المسيحية في ليبيا، حيث يصف الإيطالي "بورو" عميد كلية الآداب بجامعة بنغازي، "أن تاريخ بنتابوليس في الفترة ما بين القرنين الـ11 و الـ19 يعتبر تاريخا مجهولا، أو غير مكتوب".
ورغم تأكيد بعض المؤخين على إنتهاء الوجود المسيحي من ليبيا في أواخر القرن الـ13. إلا أن آخر ذكر لوجود أسقف لبنتابوليس موجود بمخطوطة قبطية يرجع محتواها لعهد البابا يؤانس الـثالث عشر أي في القرن الـ16.

ولكن على أي الأحوال، غالبية المؤرخين يقولون إن المسيحية بدأت في التلاشي في وقت الحروب الصليبية في عهد صلاح الدين في القرن الـ11 و رغم عدم تأييد المسيحيين الشرقيين لها، إلا أنها أحدثت توترا في علاقة المسيحيين بالمسلمين هناك وتسببت في تعرض المسيحيين لمزيد من المضايقات على مدى سنوات، كما ساهمت عدد من الظروف السياسية و الاجتماعية في هجرة المسيحيين منها.

عودتها في 1972

قرر البابا شنودة بعد إعتلائه الكرسي البابوي إعادة إحياء الكرازة في الخمس مدن الغربية، بعد أن أصبحت مجرد جزء من لقب البطريرك، فرسم الأنبا باخوميوس أسقفا على البحيرة و مطروح و الخمس مدن الغربية في 12 ديسمبر من العام 1971 وذهب البابا شنودة إلى ليبيا في 27 من مارس 1972 لتدشين أول كنيستين هناك.

ويقول البابا شنودة إن الظروف لم تكن مطمئنة في ذلك الوقت، فقد أختقى وقتها الزعيم الشيعي موسى الصدر في ظروف غامضة، ولكن ذاكرته وثقافته ومعلوماته عن الثورة الليبية أسعفته أمام القذافي لتكوين علاقات جيدة مع الدولة الليبية، لتعود خدمة الكنيسة القبطية مرة أخرى لليبيا بعد اختفائها لقرون.

البابا شنودة يحكي قصة زيارته الأولى لليبيا وذكرياته مع القذافي

عودة للانحصار

وبعد حوالي 40 عاما من العودة، اختفى الوجود المسيحي تماما للمرة الثانية، ولكن هذه المرة على يد الميليشيات المسلحة بمختلف مسمياتها، سواء "أنصار الشريعة" أو "داعش"، التي قتلت 34 قبطيا في العامين الأخيرين.