التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 09:50 ص , بتوقيت القاهرة

أحكام أهل الذمة (1)

بيد أن هذه الشروط، التي أقرها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - ليست على إطلاقها، إذ تسري فقط على البلدان التي فتحها المسلمون بصلح أو معاهدة، أما إذا كانت البلد قد فُتحت عنوة، فيحق للخليفة أن يهدم الكنائس فيها متى شاء، بل ويتوجب عليه هدمها، بحسب ما يقول ابن حنبل، الذي جاء عنه: إن كانت الكنائس صلحا تركوا على ما صولحوا عليه، أما العنوة فلا. وفي موضع آخر: ما كان من صلح يقر، وما كان أحدث يهدم.

وإذا ما فتح المسلمون بلداً من البلدان، واستحدثوا على أرضه مدينة فلا يحق لأهل البلد أن يبنوا في تلك المدينة أي كنيسة لهم، وقد سئل ابن عباس عن أمصار العرب، أو دار العرب: هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا؟ فقال: أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة، ولا يضربوا فيه ناقوسا، ولا يشربوا فيه خمرا، ولا يتخذوا فيه خنزيرا.. ويزيد الإمام أحمد على هذه الشروط بالقول: ولا يرفعوا أصواتهم في دورهم. 

وليس قول إمام أهل السنة – رحمه الله - مجرد تنظير فقهي، بل هو ما طبقه عملياً "عمر بن عبد العزيز"، قبل زمن ابن حنبل بقرنين تقريباً، وذاك هو السبب الثاني الذي يُثبت صحة الشروط العمرية كما أوردناها.

إذ قد أمر خامس الخلفاء الراشدين بهدم الكنائس في البلاد التي فتحها المسلمون، وأصدر مرسوماً بقانون ألزم به مسيحيي الشام بالبنود التي كتبها لهم جده "عمر بن الخطاب"- رضي الله عنه- وإذا ما خالف منهم أحد، بأن رفع الصليب فوق الكنائس، أو ضرب الناقوس، فإنّ سلبه لمن وجده من المسلمين، هذا على الرغم من أنه - بحسب ما أجمع  الإخباريون - كان يتحرى العدل في كل تصرفاته، فلما تولى الخلافة كان عامل الخراج على مصر رجل يقال له "أسامة بن زيد التنوخي"، يقول عنه ابن الجوزي: "كان غاشماً ظلوماً معتدياً في العقوبات، بغير ما أنزل الله عز وجل. كان يقطع أيدي المصريين وأرجلهم في خلاف ما يؤمر به، وكان يشق أجواف الدواب فَيدْخل فيها القطّاع ثم يطرحهم في النيل للتماسيح، فعزله عمر بن عبد العزيز! ورغم ذلك، لم يكن بوسعه أن يخالف في المصريين، أهل الذمة، ما جاء بحقهم من شروط وأحكام.

وكانت ظروف الحرب الأهلية التي اشتعلت بعد موت عثمان بن عفان – رضي الله عنه -  قد حالت دون تطبيق الشروط العمرية. لذا، فقد كانت عودة عمر بن عبد العزيز لتطبيقها موضع حفاوة كبيرة من المؤرخين والفقهاء. وهو الأمر عينه الذي عاد وتكرر مع الرشيد، الذي هدم الكنائس في مصر، والمتوكل، الذي هدم كنائس العراق، والخليفة القادر، وبسببه نالوا جميعاً ذات الحفاوة.

فقد جاء عن ابن كثير مثلاً، في معرض سرده لمناقب المتوكل، ما نصه: "أمر المتوكل أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم.. وأن لا يُستعملوا في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم، وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة.. وأمر بتسوية قبورهم بالأرض، وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والآفاق". وهو الأمر الذي يعقب عليه ابن تيمية بالقول: "وكان في أيام المتوكل قد عزّ الإسلام، حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار".

والشروط ذاتها، كان قد تم تطبيقها على الأقباط بعد غزو العرب لمصر، إذ كان الخلفاء قد فرضوا على المصريين أن يحلقوا رؤوسهم أو نواصيهم، وألا يلبسوا عمامة أو حذاء، ولا يركبوا الخيول، ولهم فقط ركوب ما دونها، شريطة أن يركبوها بالعرض، وهي العادة التي مازالت قائمة في الريف المصري حتى يومنا هذا، وحظروا على المصريات ركوب الرحائل، وإذا ما تجرأ مصري وخالف تلك الشروط، فللعربي المسلم أن يسلبه وله سلبه، وقد استمر هذا الحال إلى أن جاء الفاطميون، الذين ما كانوا، لأسباب سياسية، يثقون في أهل السنة، فخففوا من وطأة القيود على الأقباط، وقربوهم إليهم عوضاً عن العرب. 

ومن جملة أحكام أهل الذمة، ما يتوجب على المسلم فعله إذا ما تزوج من مسيحية في بلادها، فله أن يأمرها بعدم شرب الخمر المُحلّل لها بحسب شريعتها، وله أن يمنعها من الذهاب لدور عبادتها، وليس لها حق الخروج إلى الكنائس في الأعياد، وبينما فُرض على الذمي والذميّة أن يميزوا أنفسهم بارتداء ما كان يعرف عصرئذ باسم "الزنار"، وهو حزام يُشد على الوسط، ويتدلى طرفه، إلا أنه، وفي الوقت ذاته، لا يحق للزوجة المسيحية أن تطلب من زوجها المسلم أن يشتريه لها، بحسب ما جاء عن ابن حنبل، فقيه أهل السنة وشيخهم الأول!

وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.

للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك


المصادر:
ابن القيم. أحكام أهل الذمة. المجلد الثالث من صـ 1159 إلي صـ 1348
أبو بكر البغدادي (مش بتاع داعش). أحكام أهل الملل والردة. صـ 346 وما بعدها.
ابن تيمية. نقض المنطق. من صـ 18و 19 و 20.
ابن الجوزي. سيرة عمر بن عبد العزيز. صـ 81
ابن كثير. البداية والنهاية. المجلد العاشر. صـ 313 وما بعدها.
وانظر وقائع الفتح العربي عند بن عبد الحكم. فتوح مصر وأخبارها.