التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 08:48 م , بتوقيت القاهرة

توريث الوظيفة العامة خطر على الدولة

" الحاجة الوحيدة اللي راجعتها في الدخول لكلية الشُرطة، هي أقارب وأبناء الضباط والأفراد.. واحد واحد".


هذه العبارة وردت في التسريب المنسوب للسيد وزير الداخلية في حواره مع الضباط من قطاع الأمن المركزي. الحديث –كما هو واضح- دار حول اختيار أبناء وأقارب الضباط للانضمام لكلية الشرطة. الوزير أكد أنه يعطي الأولوية المُطلقة لأقارب الضباط في الاختيار. أضاف أنه –إمعاناً في التيسير على هذه الفئة- وجّه بأن تجرى إعادة "اختبار المخدرات" لمن يرسب فيه من أبناء الضباط لإعطائهم – دون غيرهم- فرصة أخرى في تجاوز هذا المعيار الواضح والصارم.


يُذكِّر هذا الحديث بتصريح شهير أطلقه منذ سنوات أحد القضاة بشأن التحاق أبناء القضاة بالنيابة العامة. أشار هذا القاضي إلى أن "مقبول + بيئة قضائية = جيد جداً". والبيئة القضائية هنا تعني أن تكون ابناً لقاضٍ.


أثار هذا التصريح جدلاً كبيراً وقتها، برغم أنه كان تقريراً لواقع نعرفه جميعاً: غياب أي معيار واضح للجدارة في الالتحاق بصفوف النيابة العامة، إذ لا يُعتد بالتقدير في كلية الحقوق كمعيار، كما لا يوجد امتحان موحد وشفاف على المستوى القومي لاختيار أعضاء النيابة.


تسريب وزير الداخلية نكأ الجراح. ذكرنا بما نعايشه حولنا كل يوم في مصر من مظاهر لغياب العدالة في التعيين في الوظيفة العامة. أُذكرك في هذا المقام بالمشهد الشهير من فيلم "الأيدي الناعمة"، عندما يلتقي الأرستوقراطي "أحمد مظهر بابن بائع البسبوسة الذي صار دبلوماسياً "لأن بلدنا دلوقتي.. المقام الأول فيها للعلم والإخلاص في العمل". هذا المشهد –المفتعل قليلاً وإن كان لا يخلو من حقيقة- صار خيالياً تماماً في سياقنا الحالي.


يوليو 52 بشّرت بمجتمع الأولوية فيه للجدارة والكفاءة، لا الأصل والنسب أو القدرة المالية. المُفارقة أن العقدين السابقين على يوليو كانا قد شهدا بالفعل حالة من الفوران الطبقي في مصر دفعت بأبناء الطبقة الوسطى إلى أعلى، وخاصة في وظائف الدولة. آية ذلك أن ضباط يوليو جاءوا في غالبيتهم من عائلات تنتمي للطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة. ولم يقف الأمر عند الجيش.


أغلب نجوم الصحافة والحياة الأدبية والفنية جاءوا من الطبقة الوسطى كذلك. فكِر بأسماء مثل نجيب محفوظ وأحمد بهاء الدين وأم كلثوم. كلهم كانوا ينتمون إلى شرائح الطبقة الوسطى ووجدوا لأنفسهم مكاناً في قمة المجتمع.


يحتاج الأمر بالطبع لدراسة أوسع، لا أعرف إن كان هناك من توفر عليها، ولكن يُمكن القول بأن "نظام الجدارة" كان يعمل بصورة معقولة قبل يوليو 52. فمع التسليم بالتفاوت الحاد بين الطبقات، إلا أن ثمة آليات معينة كانت تتيح للموهوبين تسلق السُلم الطبقي استناداً لجدارتهم. أهم هذه الآليات على الإطلاق كان التعليم. إنهاء التعليم الجامعي كان "فلتر" مرور رئيسي للنجاح في الحياة.


ما بشرّت به يوليو كان إتاحة الصعود الطبقي للجميع عبر آلية محددة هي التعليم، وبحيث يتمكن أبناء من ينتمون إلى شرائح ما دون الطبقة الوسطى من أن يجدوا هم أيضاً فرصتهم في ترقي السلم الاجتماعي، ليصبحوا ضباطاً ووكلاء نيابة وأطباء.


إلا أن "وعد يوليو" –كما نعرف جميعاً- تبخر. بل إنه انقلب إلى كابوس، فما الذي جرى؟


مع التوسع في التعليم، ومع غياب نظام جيد وذكي لفرز أصحاب المهارات والمواهب، لم يعد "فلتر التعليم" يعمل كآلية لفرز الموهوبين. كان على المجتمع والدولة أن تفرز آليات جديدة. تلك الآليات ظلت في جوهرها. جرى تكريس حصول أبناء من يعملون في الوظائف الحكومية العُليا على فرص أفضل من غيرهم في الحصول على تلك الوظائف. وهكذا صار لدينا عائلات بأكملها تعمل في القضاء، وعائلات في الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى.


الدولة المصرية، والتي كان يُفترض أن تعمل كآلية ضبط للفوارق الطبقية، صارت أكبر ممارس للطبقية والعائلية. يا للمفارقة!


هذا الوضع يضيع على الدولة فرصاً كبيرة في تجنيد أفضل العناصر لأخطر الأماكن وأكثرها التصاقاً بصورتها لدى المجتمع (القضاء والشرطة). يُمكن بسهولة استنتاج علاقة مباشرة بين أسلوب التجنيد والاختيار لهذه الوظائف وبين التدهور المُرعب في الكفاءة الذي يشهده مرفقا الشُرطة والعدالة.


لا توجد مساواة مُطلقة في أي مجتمع.


نشرت مجلة الإيكونوميست في عدد 24 يناير تحقيقاً مطولاً عن "أرستقراطية أمريكا الجديدة". جوهر التقرير أن نظام التعليم الأمريكي يُكرس انعدام المساواة في بلد عُرف على مدى تاريخه بأنه أرض الفرص لأصحاب الكفاءة والمثابرة، بلا اعتبار لحسب أو نسب. أشار التقرير إلى أن ظاهرة الزواج بين حملة الشهادات الجامعية بوصفه آلية لتكريس الفوارق الطبقية، لأنه يعطي أبناء هذه الزيجات فرصة أعلى من غيرهم سواء من حيث البيئة التي ينشأون فيها (مستوى ثقافي أعلى)، أو من حيث القدرة المادية.


 في الولايات المتحدة – وبخلاف الغالبية الكاسحة من الدول المتقدمة- يرتبط مستوى التعليم بالقدرة المادية للأسر، حتى في مدارس الدولة. يُضاف إلى ذلك أن الجامعات الكُبرى تُعطي الأفضلية في القبول لمن كان أحد والديه من أبناء الجامعة. تبين أن 16% ممن التحقوا بهارفارد في العام الماضي جاءوا من أسر درست في هارفارد!


التقرير يُشير إلى جذر أعمق لانعدام المساواة: أبناء النخبة الجديدة هم بالفعل أذكى ويستحقون الأماكن التي حصلوا عليها في الجامعات والعمل. على أن الانضمام إلى هذه النخبة في حد ذاته، عبر التمكن من أدوات التفوق، أصبح صعباً. لم يعد سهلاً على الطفل الذي ينشأ في بيئة فقيرة أو أسرة مُفككة أن يحصل على فرصته في الوصول إلى جامعة كُبرى أو وظيفة مرموقة.


 النظام لا يحول دون ذلك، ولكن الفرصة ذاتها صارت ضئيلة بسبب اهتمام العائلات الغنية وعائلات الطبقة الوسطى بتوفير أفضل تعليم ممكن لأبنائها. لا قِبَل لمن ينحدرون من أصول متواضعة على المنافسة مع أبناء هذه العائلات. النتيجة: النخبة تعيد إنتاج نفسها، وبصورة صارت مغلقة على غيرها.


لاحِظ أن التقرير لا يُناقش عدالة نظام الجدارة في التعيين في الوظائف، فهذا أمرٌ مفروغ منه. هو يناقش بُعداً آخر: فرصة أبناء الطبقات الفقيرة في المنافسة مع غيرهم ممن تتوفر لهم فرص التعليم الجيد والحياة العائلية المستقرة. الهدف هو الوصول إلى أعلى درجة من المساواة في الفرص، لتصعيد الكفاءات الحقيقية.


إن كانت هذه قضية مثارة في الولايات المتحدة (أرض الفرص)، فالأولى أن تُثار – وعلى أوسع نطاق ممكن- في مصر. لا يخلو مجتمع من أسباب لانعدام المساواة، على أن الوضع في بلدنا صار كارثياً بل وعبثياً على نحو ما. الطبقية والعائلية تُدمر أجهزة الدولة الرئيسية في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لمؤسسات قوية وقادرة. الخطوة الأولى تتمثل في إعادة النظر في نظام الجدارة والتعيين في النيابة العامة والقضاء والشرطة بصورة شاملة. فكرة الامتحان العام الشفاف على المستوى القومي  -كما يحدث لدى الالتحاق بالسلك الدبلوماسي مثلاً، على الأقل في المرحلة التحريرية- هي البداية الصحيحة.


أنقل ما جاء بخاتمة تقرير الإيكونوميست: "إضعاف الحلقة بين الأصول العائلية والنجاح سوف يجعل أمريكا أكثر غنىً، فالحاصل حالياً أن مواهب كثيرة جداً يتم اهدارها. إن ذلك من شأنه أيضاً أن يجعل المجتمع أكثر تماسكاً. لو حدث وتشكك الأمريكيون في أنه يجري التلاعب بالنظام، فإن هذا قد يدفعهم للتصويت للديماجوجيين من اليمين واليسار".