التوقيت الثلاثاء، 23 أبريل 2024
التوقيت 06:07 م , بتوقيت القاهرة

العدالة الاجتماعية بين ثورتين

بين "عبده عبد المنعم جعفر" و "عبد المسيح عزت" ثورتين وعدالة اجتماعية ضائعة.. وأحلام بسطاء وطن في حياة كريمة.. ففي مقدمة منطقية قبل الانفجار البركاني في ميدان التحرير الذي أثمر عن ثورة (25 يناير).. تصدر المشهد وقائع القهر والظلم الاجتماعي الذي تراكمت مظاهره تراكمًا بشعًا ينذر بانفجار ثوري لم يكن أحد يعلم من أين يبدأ.. وإن كنتُ تصورتُ أنه سوف يأتي من غضب عشوائيات الجوع والمهانة التي تشكل حزامًا يُطوق البلاد في فوضى طبقية لا مثيل لها. 


لكن المشهد ظهر على رصيف مجلس الوزراء المقابل للبوابة الرئيسية لمجلس الشعب.. وكان بطله "عبده عبد المنعم جعفر" الذي ربما نسيناه ونسينا حكايته بسبب تدفق الأحداث الصاعقة، التي بدأت بتظاهر الشباب وانتهت بإعلان سقوط النظام سقوطاً تاريخياً وتولي المؤسسة العسكرية شئون الحكم. 


فمن هو "عبده عبد المنعم جعفر" ؟! 


إنه صاحب كشك الفول الصغير بالقنطرة غرب بمحافظة الإسماعيلية، الذي شعر أن الموت هو وسيلته الوحيدة التي لا يملك سواها للتعبير عن وجوده.. وعن وجود أمثاله الذين يعيشون حياة تعسة، يعانون فيها فقراً وظلماً اجتماعياً يفوق قدرتهم على الاحتمال والتجاوز.. فهم عاجزون عن تلبية أبسط حقوقهم في الحياة.. لقمة يابسة تسد الرمق.. وصدمة متواضعة تستر البدن.. وقروش قليلة لاحتياجات أساسية كتعليم أطفال أو سداد إيجار مسكن متداعي مبني بالطوب اللبن وباب خشبي متهالك وأثاث منزل لا يزيد عن قطع خشبية بسيطة على أرضية طينية تتراكم عليها المياه.


 وعلى بعد أمتار يلعب "سيد" و "أمينة" ابنا "عبده" الصغيران دون وعي منهما بحالة والدهما، وربما كانا أحد أسباب إقدامه على الانتحار.. فهو يعولهما ويعول زوجته وأمه المريضة وابن أكبر يساعده في العمل على طريق رئيسي يربط بين محافظتين، وكل رواده من سائقي النقل والمقطورات.. وبعد ما بدأ إضراب المقطورات تأثر الدخل جداً.. لم يطلب "عبده" إلا زيادة حصة العيش.. والوحدة المحلية تتعسف معه في صرف الخبز المدعم المخصص له.. ولوالدته.. كما تتعسف في استبدال مكان تسلم الخبز من الإدارة المحلية إلى قريته. 


وقف "عبده" على رصيف مجلس الوزراء.. وسكب على نفسه البنزين.. وهتف.. "منكم لله.. قطعتم عيشي.. آكل منين أنا وعيالي.. حقي ضايع".. ثم أشعل النار في جسده.. إن صرخات الاحتجاج بالانتحار تحمل رسالة بائسة تعني.. أنني وأمثالي من البؤساء سوف نؤرق ضميرك أيها المجتمع المتحجر القلب بإزهاق أرواحنا.


لكن تلك الرسالة العاجزة المؤلمة لم تصل وقتها إلى المسؤولين.. فقد كان رد فعل محافظ الإسماعيلية يلخص في تعليقه على الحادث فداحة المأساة التي نعيشها وبشاعة خطايا نظام فاسد بأكمله.. وحتمية أن تهب عاصفة عاتية.. تطيح به وتجتثه من جذوره.. فقد وصف المحافظ في بيان أصدره أن إقدام "عبده" على الانتحار أمام مجلس الشعب تصرف غير لائق (مش شيك أو رقيق يعني) وناتج عن خلل نفسي.. فالمواطن يحصل على حصته من الخبز.. لكنه افتعل مشكلة مع مدير منفذ توزيع الخبز.. وحرر له محضراً في قسم الشرطة ثبت من خلاله أنه يرغب في بيعها بالكشك بالمخالفة للقانون. 


موقف المحافظ يمثل غلظة واستعلاء في مواجهة البسطاء الذين يقتربون من حد الفقر في مجتمع يعاني من بطالة وغلاء أسعار وقهر اجتماعي وفساد إداري.. بينما واجبه يحتم عليه أن يبسط حمايته ورعايته للمحتاجين.. ويعمل على حل مشاكل بسيطة لن تكلفه جهداً أو وقتاً أو تخطيطاً أو أموالاً فادحة.. إنها بضعة أرغفة لأفواه جائعة.


 كما يكشف بيان المحافظ عن افتقار فاضح للرؤية الاجتماعية والسياسية لأحوال المجتمع وبيروقراطية ذميمة تعلي من أهمية الإجراءات العقيمة حتى لو كان الثمن جوع أسرة أو إغلاق مطعم صغير.. فزيادة حصة الخبز تستلزم طلباً يقدمه المواطن يوافق عليه رئيس المدينة.. ثم تأشيرة مدير التموين.. ثم توقيع مدير منفذ توزيع الخبز.. وربما عشرات الموظفين الآخرين الذين يقومون بدراسة حالة المواطن الإجتماعية وتقدير مدى احتياجه للخبز.


 ثم ينتهي الأمر في النهاية بقرار أنه.. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. إن الظلم الاجتماعي مضاف إليه تفشي الفساد كانا المقدمة المنطقية التي أدت إلى ثورة شعب يعيش ملايين منه في المقابر.. ونهب اللصوص ثروات الوطن.. وأراضيه وأتوا على الأخضر واليابس.. وهكذا فإن ثورة (25) يناير التي رفعت شعارات الحرية العدل والكرامة الإنسانية.. هي ثورة الطبقة المتوسطة التي جاءت من أجل التعبير عن أحلام بسطاء الوطن الذين يمثلون أغلبيته البائسة في حياة أكثر عدلاً وإنسانية.


ثم تجري في النهر مياه كثيرة.. ويستولى الإخوان على الحكم ويأتي الطوفان الثاني ممثلاً في ثورة (30) يونيو ليقتلعهم ويتولى "السيسي" إدارة الدفة وسط عواصف عاتية وأنواء صعبة لتحقيق ثورة إصلاحية. 


لكن أهم أهداف الثورة في إعلاء قيمة العدالة الاجتماعية مازالت ملامحه غائبة.. وبين صراع "عبده عبد المنعم جعفر" على رغيف الخبز.. ومأساة الطفل "جرجس عزت" أكثر من أربع سنوات. 


لقد ضبطوه يسرق من الفرن الذي يعمل به خمسة أرغفة وسيق إلى قسم البوليس وأفرج عن وكيل النائب العام على جريمته في إعلان العصيان على الجوع.. "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".. ثم كانت المفاجأة العاصفة بعد عام ونصف، حيث حكم على الطفل بالإيداع في مؤسسة أحداث فهناك أخطار من جنايات "بني سويف" بالأمر.. وهذا يعني أن أوراق القضية حملها مخصوص من النيابة العامة للمحكمة. 


يقول الأستاذ "عصام كامل" في مقاله عن "عبد المسيح" في "فيتو"، إن المجتمع خطط بليل أن يسرق من عبد المسيح في حياته.. وهو ذاته نفس المجتمع الذي خطط في مؤامرة حيكت للسطو على روح "عبد المسيح" تلك الروح التي وهبها الله له وأمره وأمر أولي الأمر أن يحافظوا عليها.. عبد المسيح سرق من أجل الحياة وحكم المحكمة عليه قضاء ضد الحياة". 


"عبد المسيح" شأنه شأن "عبده عبد المنعم جعفر" ضحايا مجتمع يكره الفقراء ويزدريهم ويطلب منهم أن يقدموا اعتذاراً عن وجودهم في حياة تعسة في مجتمع مازال يحتفي بالفوارق الطبقية بين الثراء الفاحش في مقابل الفقر المدقع.. تناقض حاد وصارخ مازال بين قاهرة الفقراء.. وقاهرة يعيش نصف سكانها تحت حد الفقر.. وقاهرة أخرى تشيد الفنادق الفاخرة لخدمة مائة وستين نوعاً من الكلاب المدللة.