التوقيت الثلاثاء، 30 أبريل 2024
التوقيت 05:25 م , بتوقيت القاهرة

ليبيا هي الربيع العربي ذاته!

في خضم ثورة 17 فبراير على حُكم القذافي، وهي بالتأكيد الثورة الأكثر راديكالية في ثورات الربيع العربي (باعتبار أن الثورة السورية هي في جوهرها حربٌ أهلية)، ظهر رجل ليبي أمام الكاميرات يحمل لافتة مكتوباً عليها جملة من كلمتين: "أنا رجل".


لم تصدمني صورة أو يهزني مشهد من مشاهد الربيع العربي المُفعمة بالدراما –أصيلها ورخيصها- بقدر ما حركتني هذه الصورة. "أنا رجل"، نعم..هي ثورة من أجل الكرامة. هذا هو الجوهر العميق لثورات الربيع العربي. لم تكن حركة من أجل الديمقراطية، بل الكرامة. الديمقراطية مفهوم مُحدد له آليات معروفة ومؤسسات يتحقق من خلالها. الكرامة مفهوم مجرد. قيمة عليا لا يُمكن قياسها معيارياً.


الحُكم الديكتاتوري أهان المواطن العربي. قتل رجولته. جعله يكره ينظر إلى ذاته باحتقار وكراهية. أن تكره حكامك، فهذا ممكن الحدوث في أي نظام، شمولياً كان أو ديمقراطياً. أن تكره ذاتك وتحتقرها فهو الجحيم ذاته.


لم يُجسد حاكمٌ عربي هذه المعاني كما فعل حُكم القذافي لأربعة عقود ويزيد.


ليبيا، بدورها، هي أكثر بلد يعكس معنى الظاهرة المُسماة بالربيع العربي بكل آمالها العظام ومنحنياتها الخطرة ومآلاتها البائسة.


في ليبيا، التي تنتج 1.6 مليون برميل من النفط يومياً، ويقطنها نحو 6 ملايين، لم يكن العوز الاقتصادي هو القضية. لم يحدث أن قام القذافي بعمل إصلاحات اقتصادية – مثلما حدث في تونس ومصر- أفرزت ثورة في التوقعات لدى الطبقة الوسطى فتحرك أبناؤها مطالبين بالمزيد. لم يحدث أن ضرب ليبيا الجفاف كما حدث في ريف سوريا الذي كان مُحرك الثورة ضد الأسد. ليبيا ليست بلداً تعيش الغالبية الكاسحة من أبنائه على الكفاف كما هو الحال مع اليمن. وليس فيه أغلبية دينية تشعر باضطهاد أقلية حاكمة، كما هو الوضع في البحرين.


في ليبيا هناك وفرة في الموارد الاقتصادية مع حجم قليل من السكان. إذا جرى التخلص من القذافي وإدارته الجنونية التي بددت الأموال على مشروعات الزعامة الفارغة، يكون الطريق مفتوحاً أمام اقامة منظومة ديمقراطية واقتصادية مزدهرة. هكذا فكر الكثيرون. هكذا بدى المسار المنطقي للأمور.


هذا، كما نعرف اليوم، لم يحدث. لم يحدث حتى شيء قريب منه. بل وانقلبت الأوضاع في ليبيا بصورة تجعلها حقاً مرشحة لأن تكون من أكثر المناطق خطورة في العالم.


الطريق الذي قطعته ليبيا منذ نهاية 2011 إلى اليوم يعطينا مؤشراً عن تفاعلات الربيع العربي. هذا المسار يشرح لماذا كان مُحتماً في النهاية أن يُفضى هذا الربيع إلى ما أفضى إليه من تفتت وخراب.


لم يترك القذافي خلفه مؤسسة واحدة. لا جيش ولا أمن ولا بيروقراطية. البلد  كله كان مربوطاً بشخصه، وربما قبيلته. لذلك لم تكن هناك قوة في ليبيا قادرة على نزع سلاح الميليشيات التي قامت بإزاحة القذافي. في نهاية 2011 كان عدد المنضوين تحت لواء هذه الميليشيات 60 ألفاً. في العام التالي تضخم العدد إلى 200 ألفاً ينتمون إلى نحو 500 ميلشيا. لم تستطع الحكومة، التي كانت تضم مسئولين تكنوقراط - قضاة وأكاديميين – من ذوي النوايا الطيبة، أن تفعل شيئاً إزاء الميلشيات. بل صارت تدفع لها إعانات شهرية. هذه الميشليات المتنافرة المتصارعة صارت الحاكم الفعلي في ليبيا.


في الانتخابات التي جرت في يوليو 2012 شارك 60% ممن لهم حق الاقتراع. الإسلاميون لم يحصلوا على أكثر من 18 مقعداً من أصل 80 مقعداً في المؤتمر الوطني العام الذي تسلم السلطة. كانت تلك إشارة صريحة إلى أن هوى ليبيا ليس إسلاميًا. الربيع العربي لم يكن محتماً أن يسقط في حجر الإسلاميين، إلا لو تصرف أنصار المعسكر الآخر بطريقة تقود إلى هذه النتيجة.


المسار الليبي يكشف العوار الكامن في الربيع. مع غياب شبه كامل للمؤسسات، ولمعنى الدولة ذاته، لم يعد للانتخابات –التي شارك فيها الغالبية من الناس بأمل حقيقي- أي مدلول أو قيمة. سُرعان ما سارت الأمور في اتجاه تصفية الحساب مع حُكم القذافي. الحقيقة أن هذا الاتجاه بدأ مُبكراً جداً في ليبيا بمقتل "عبد الفتاح يونس"، القائد العام لقوات المجلس الانتقالي على يد الجهاديين.  تعزز هذا التوجه أكثر بحصار "الثوار" والميلشيات للبرلمان المنتخب لإجباره على تمرير قانون العزل في مايو 2013.


قسم معتبر من  تفاعلات الربيع العربي كان مُركزاً على الماضي. في جانب منها، كانت ظاهرة الربيع "انتقامية". نزعة الانتقام- في جوهرها- كانت إشارة إلى أن "الحاضر" لا يحمل وعداً إلا بأن يكون صورة معكوسة للماضي في المرآة، ولا شيء أكثر. القدرة على بناء منظومة جديدة للعلاقات السياسية (منظومة حُكم) كانت شبه معدومة. كان أقصى ما يطمح إليه "ثوار الربيع" هو إزاحة الحُكم القائم وضمان إهانته – على اعتبار أن في ذلك رداً للكرامة السليبة على مدى عقود- توطئة لإحلال نخبة حكم جديدة محله. مرة ثانية: الكرامة كانت المُحرك الرئيسي للتفاعلات.


الصراع حول "من" يحكم هو الذي فجر صراعات الربيع، في ليبيا كما في غيرها. التوافق على "كيف" يكون الحُكم كان بعيداً عن خيال الكُتل الرئيسية التي حركت تفاعلات "الربيع".


منذ قانون العزل، انحدرت ليبيا أكثر إلى حالة "اللادولة". برغم محدودية تمثيل الإسلاميين في المؤتمر الوطني العام، إلا أنهم نجحوا في خلق توازن قوى يميل لصالحهم. بعد محاولة باهتة وفاشلة للسيطرة على الموقف عسكرياً بزعامة اللواء "حفتر"، لم يجد الليبيون بُداً من الاحتكام مُجدداً إلى الصندوق. الديمقراطية "الصندوقية" ظلت الشعار البراق للربيع العربي. الترياق الشافي لحسم الصراعات.


في الانتخابات التي عُقدت في يونيو 2014 لم يُشارك سوى 18% من الليبيين. الناس أصابها الاحباط وتملك منها اليأس. واضح أن الصندوق لا يمكنه- بمفرده- أن يوفر حلاً.


الإسلاميون رفضوا نتائج الانتخابات وكونوا ميليشيات من مصراته اجتاحت العاصمة طرابلس في أغسطس 2014. البلد انقسمت بين حكومتين وبرلمانين: برلمان شرعي في طبرق في أقصى الشرق، وآخر "منتهية ولايته" في طرابلس. الوضع الآن يُمكن توصيفه بأنه حربٌ أهلية منخفضة الشدة. هي حرب مرشحة للخروج عن السيطرة، بسبب الوضع الجغرافي لليبيا (حدودها تتجاوز 6 آلاف كيلو متراً)، وتوفر ترسانات من السلاح التي خلفها نظام القذافي.


ليبيا قصة حزينة. بل هي صارخة في مأسويتها، إذ إن فيها من العناصر ما يجعل النجاح هو النتيجة المنطقية. على أن جرثومة الفشل كامنة في بنائها ذاته، كما هي كامنة في بنية الدولة العربية المعاصرة بوجه عام.


الربيع العربي عرى ليبيا، كما عرى غيرها من الدول التي عصف بها أو كاد. الربيع هنا ظاهرة كاشفة وليست منشئة. تفاعلاته لا تسير في اتجاهات تراكمية إلى أعلى وإنما تلف في دوائر حلزونية إلى الأسفل. لا يُبشر بالجديد، بقدر ما يُصفي الحساب مع القديم.


أكاد أرى الليبي الذي حمل لافتة "أنا رجل" في أول أحداث الثورة وهو يرفع لافتة أخرى تقول: "أنا رجل.. ميت".