التوقيت الخميس، 28 مارس 2024
التوقيت 02:09 م , بتوقيت القاهرة

خلف القضبان.. كيف أنقذت الأم الصعيدية أبناءها من القتل والإعدام؟

حلقات خلف القضبان
حلقات خلف القضبان
"اليوم السابع" يقدم فى سلسلة "خلف القضبان" قصص ليست دربا من الخيال ولا فكراً مجردا لمبدع، ولا صورة خيالية لفنان عن الواقع، وإنما قصص واقعية من داخل ساحات المحاكم تكشف فيها حقائق وأسرار وألغاز الكثير من القضايا.

"الحلقة الرابعة".. "أم تنقذ أبنائها من القتل والإعدام


يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا"...

كانت النظرة إليه منذ الوهلة الأولى مخيفة.. كان أشبه بثور بشرى شرس من الصعب ترويضه، من المستحيل السيطرة على فكره أو إقناعه بغير رأى اعتقده.. كان ضخم الجثة طويلاً عريض المنكبين، بريق عينيه يشع منهما القسوة.. جلس أمام محاميه وقد أحضر معه سيدة فى العقد الخامس من عمرها جاءت معه على استحياء على غير عادة أهل الصعيد الحضور فى أقران هذه القضايا.. لتبدأ الحديث " أنا أم المتهم".. وحبس دموعها فى مقلتيها وهى تقول بصوت خفيض ملؤه الثقة " ابنى برىء والله، وكررتها عدة مرات من قتل أخته".. مما أدخل الشك فى نفسى بصدق حديثها، وأشارت إلى الحاضر معها " وده خطيبها وابن عمها فى الوقت نفسه.. وكان مفروض حيتجوزها قبل الجريمة بحوالي أسبوعين".

1
ويروى أبو شقة، قرأت القضية وقبلت بالدفاع عن المتهم، فقد أيقنت منذ الوهلة الأولى أن المتهم بقتل شقيقته عمداً مع سبق الإصرار والترصد والذى أصر على الاعتراف بقتلها ومثل كيفية ارتكابه للجريمة برىء.. وأنه ليس القاتل.. وأن للواقعة صورة أخرى مغايرة تمام التغاير ومخالفة كل الخلاف لما جرى عليه اعترافه الذى أصر وصمم عليه طيلة فترة الاستدلالات والتحقيقات أمام النيابة العامة.
 
2

 

كانت نظرات المتهم حادة وقسمات وجهه التى تنطق بالجدية والإصرار على المضى باعترافه مهما كان الثمن، ولو كان حبل عشماوى ملفوفاً حول رقبته، كان يجلس فى قفص الاتهام كالطاووس نافشاً جناحيه وسط أبناء قريته الذين اكتظت بهم القاعة عن أخرها.. وهو ما يلبث أن يتجول فى قفصه بين الحين والأخر مستعرضاً قوته، مؤكداً للجميع نخوته ورجولته، موزعاً نظراته على الجميع الذين كانوا يبادلونه نظرات الفخر والإعجاب ويحسون فيه الرجولة بمعناها الحقيقى، المدافع عن شرفه وشرف أسرته.. بل القرية بأكملها، لم يكن بالقرية موضع قدم فقد جاء الجميع ليشهدوا محاكمة ابن قريتهم.. الرجل بمعنى الكلمة، صاحب النخوة الذى لم يتحمل خروج شقيقته عن العادات والتقاليد التى توارثوها منذ أمد بعيد.

 

3

 

لم يكن لديه خيار أمام أهله وذويه، وأهل قريته سوى الثأر لشرفه.. أن ينتقم لكرامته، وأن يثبت للجميع أنه الرجل القوى الذى لا يهاب شيئاً، ولا يرهبه حتى حبل المشنقة، واستبد به شيطان العادات والتقاليد والأعراف البالية، أنه إذا لم يثأر لشرفه وينتقم لكرامته سيصبح أضحوكة الجميع.. سيمحون اسمه من سجل الرجال.

 

4

 

أما شقيقته فكانت ريفية يفور منها الجمال وتتدفق منها الأنوثة، كانت بيضاء اللون.. ممشوقة القوام، شعرها الأسمر الطويل يزيدها جمالاً على جمالها، كان كستائر الليل بمجرد أن يبتلع البحر قرص الشمس وقت الغروب، وقد أكسبها هذا الجمال الطبيعى الطاغى ثقة بنفسها بلا حدود وتمرداً على واقعها الريفى الذى حال بينها وبين إتمام دراستها، فقد كانت متفوقة فى دراستها وحصلت على مجموع كبير فى الثانوية العامة، كانت أمنيتها أن تكمل تعليمها الجامعى وتتفوق فيه وتحصل على الشهادة العالية، لكن أخاها أصر على أن تقف عند هذا القدر ، وقد فرضت عليها التقاليد أن تعد نفسها للزواج من ابن عمها القروى الثرى، الذى دفن فكره وأغلق عقله فى معتقدات أهل قريته، وأنه أولى من غيره وأحق بالزواج من ابنة عمه، خاصةً بعد أن قرأ المرحوم والدها الفاتحة لهما منذ طفولتهما.

 

5

 

وفى هذا الوقت كان تفكيرها يسير فى خط معاكس وفى طريق متناقض ضد كل ما خطط له، وعليه هو أن يسير فى طريقه ومنطقه الذى تحكمه القوة والعنف والبطش.. لقد رأت أن مستقبلها يرتبط بمستقبل مهندس شاب كان يعمل فى إحدى الشركات قريباً من قريتها، جمع الحب بين قلبيهما منذ النظرة الأولى التى التقط نظراتهما أثناء عودتها من المدرسة، والتقيا أكثر من مرة، والتحف حبهما واعتصم بأشجار الحقول ونما تحت تغريد العصافير، وتعددت اللقاءات بينهما، وامتلاء قلبهما بالحب الذى تناقلته الطيور على أوراق الشجر من كثرة لقئهما ومن كثرة ما سمعوه من أحاديث الحب وتنهيدات الغرام.

 

6

 

انتشرت قصة حبهما بين أهالي القرية وتناقلتها الألسنة كل حسب ما خيل له شيطان هواه بل وجنح بهم ميزان التخيلات المسمومة إلى حدود بعيدة لا أساس لها، فقد كان حبهما شريفاً نقياً عفيفاً، ولكن ألسنة الناس لا ترحم وتخيلاتهم وشطحاتهم لا تقف عند حدود، فقد شاع الخبر بين أبناء القرية على هذا النحو الكريه مسرى الريح، ونما إلى علم شقيقها هذه الأحاديث الهامسة، ولم يكن بمقدور أحد من أهل القرية أن يواجهه بالحقيقة، فجن جنونه وحمل سلاحه النارى، وأطلق الرصاص على المحبوب قاصداً قتله، وشاء القدر أن ينجو من الموت بأعجوبة بعد أن انبطح على الأرض متخذاً ساتر كان وجاءً له ومانعاً من نفاذ الرصاصات المتلاحقة إلى جسده والذى لولاه للقى حتفه فى الحال.

 

7

 

الفتى لم يقابل الإساءة بمثلها، وقدر مشاعر الأخ والظروف والعادات والأعراف والتقاليد التى يعيش أسيراً فى دائرتها، ولا يملك إلا الانصياع لها مجبراً، ولم يجابه ثورة الأخ ونيته القضاء عليه بانتقام مقابل، كان بوسعه أن يزج به فى غياهب السجن وينفرد بمحبوبته، ولكن سمو فكره وحسن تقديره ووزنه العاقل للأمور كان هادياً له، غلبت عليه أخلاقه وشهامته واستبدت بفكره وقراراه.

 

8

 

فبالرغم من أنه رأه وتأكد من أنه هو الذى أطلق النار عليه، إلا أنه رفض اتهامه وحتى بعد أن أكدت التحريات أنه هو الذى شرع فى قتله، وواجهته النيابة بها، أصر على أنه ليس المتهم، وانتهت القضية بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم معرفة الفاعل وقيدت القضية ضد مجهول، وحفاظاً على حياة المهندس تم نقله إلى مكان آخر بعيد خواص من تكرار ما حدث.

 

بعد الوقعة ازدادت شراسة الأخ واستبد له عناده على تزويج شقيقته من ابن عمها، بل وأصر ابن عمها على ضرورة إتمام هذا الزواج بأسرع ما يمكن قطعاً للألسن ووضع حد للقليل والقال، ولكن الأخت أصرت على الرفض.. بل وأكدت لوالدتها أن الموت أهون عليها من الزواج من هذا الأمى. ضيق الأفق، محدود الفكر، وأن تقدم على الانتحار لتقدم جثتها للموت الأبدى خير من أن تقدم جسداً بلا روح، جثة مجردة من الإحساس والمشاعر لهذا الوحش، كانت تتخيل بين الحين والأخر أنها جثة هامدة يلتهمها فى وحشية بين أنيابه التى تقطر دماً فى نهم يتلذذ فى أنانية.

 

فجأة اختفت الأخت وكأن الأرض انشقت وبلعتها، وانتشرت الشائعات فى القرية وسرت مسرى الريح تؤكد أن شقيقها أو ابن عمها قد قتلها حتى يتم التخلص من عارها، ولم تمض أيام على اختفائها حتى ظهرت جثة طافية فى نهر النيل الملاصق للقرية، وتم استخراج الجثة، كانت مشوهة الوجه على نحو يصعب معه الوقوف يقيناً على صاحبتها.

 

أثبت مفتش الصحة الذى انتقل فور العثور عليها لمناظرة الجثة، وإثبات حالتها وعما إذا كانت الوفاة طبيعية أم جنائية، وجاءت النتيجة أن الوفاة جنائية نتيجة الاعتداء عليها جنائياً، كما جاء بالتقرير وجود إصابات مدممة بالرأس وترك تحديد سبب الوفاة والألة المستخدمة فى أحداثها للطب الشرعى.

 

كانت المفاجأة إذ تقدم الأخ معترفاً بأن الجثة لشقيقته وأنه قتلها ليغسل عاره، ولينقى ثوب الأسرة الأبيض من دنس هذه الفاجرة التى لطخت سمعته وأذلت كبرياءه، كانت هذه هى صورة لأحداث الدعوى التى وقفت أمام المحكمة مدافعاً عنه.

 

جاء اعتراف المتهم حسبما رصدت التحقيقات على لسانه، بأنه استدرج شقيقته إلى الشاطئ النيل ليتفاهم معها بعد أن أوهمها بأنه قبل زواجها من المهندس، وأنه يرغب فى الوقوف على معلومات عنه وقبل دعوته لإتمام هذا الزواج، وتجاذبا الحديث وأثناء محاولته إثناءها عن فكرتها وإصراره على زواجها من ابن عمها قفزت فى النيل محاولة الهرب، لكنه ألقى بنفسه فى المياه وتعقبها وضغط على رأسها فى المياه قاصداً إغراقها، حتى تأكد من موتها وتركها جثة هامدة وسط المياه، ورأى التيار يجرفها وهى تعوم على سطح الماء.

 

فى حين أن تقرير الصفة التشريحية أكد أن الجثة تضمن عدة حقائق، أن الجثة تم انتشالها وهى فى حالة انتفاخ شديد وتحلل، وأن سبب الوفاة هو إصابات قطعية بالرأس، أى حدثت قبل الوفاة وأثناء الحياة، أنه بتشريح الجثة لم يتبين وجود مياه بداخلها، فطلبت مناقشة الطبيب الشرعى خلال جلسة المحاكمة.

 

وسألته هل من الممكن فنياً أن يكون سبب الوفاة الغرق دون أن يتبين من التشريح وجود مياه فى الرئتين؟، فأجاب لا، وأنه لابد أن يوجد مياه بارئتين إذا كان الموت نتيجة الغرق، فسألته هل يمكن للجثة أن تطفو فور وفاتها، فأجاب لا وهى استحالة لان كثافة الجثة لا تسمح بذلك إلا بعد فترة زمنية تنتفخ فيها وتطفو على سطح الماء.

 

وبدأت المرافعة من الدفاع  طالباً البراءة للمتهم مستهلاً دفاعه بأن الحقيقة فى الدعوى أن المتهم لم يقتل شقيقته، واعترافه أقوال ضعيفة لا أساسا لها من الصحة بعد استجواب الطبيب الشرعى، وحديثه مخألف للواقع وهو ما أكد كذبه الطبيب الشرعى.

 

وخلال المرافعة، حدثت المفاجأة التى لم يتوقعها أحد لا الدفاع ولا هيئة المحكمة، ولا حتى المتهم داخل قفصه، ظهرت الأم بصوت مرتفع تطالب من هيئة المحكمة الحديث، وتصطحب معها فتاة توشحت بالسواد الذى غطى جسدها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، وطلب القاضى أن تزيل النقاب، وزالت النقاب بالفعل وكشفت عنه وجهها إنها أخته التى اعترف بقتلها.. جاءت بصحبة أمها التى كانت تصيح صيحة مذعورة " أنا بصفتى أم أردت حماية ابنتى بعد أن شعرت بأن ابنى وابن عمها قد اتفقا على قتلها، والبحث عن المهندس لقتله، يقتل اخته باسم العار، أى عار ارتكبته أبنتى؟، لقد أحبت حباً شريفياً، فهدانى الله أن أقف مع ابنتى وطلبت منها الاختفاء بسرعة من القرية عند أحد أقاربنا بالقاهرة، وطلبت منها أن تطلب من المهندس الشاب وتتزوجه على أعين الأشهاد وعلى سنة الله ورسوله".

 

وتابعت الأم حديثها، "وقدمت قسيمة زواج ابنتها الشرعية، وأضافت بفرحة هذا الزواج أنتج عن جنين فى جسد ابنتى، وصرخت صرخة اسمعت الجميع لعنة الله على هذه المعتقدات البالية، هل كنت على حق عندما اخترت هذا الطريق؟، عندما أصدرت قراراي لأخمد ناراً كانت ستلتهم الجميع، هل أجرمت ابنتى عندما تزوجت؟.

 

تبدلت مشاعر الجميع بالفرحة والسعادة، مباركين الزواج وهكذا تقدم ابن عم القتاة بالتهنئة وألفرحة، وفى هذه الأحيان صدر قرار القاضى ببراءة المتهم من تهمة قتل شقيقته.