التوقيت الخميس، 02 مايو 2024
التوقيت 02:57 م , بتوقيت القاهرة

معجزة جابرييل جارثيا ماركيز

يتأمل الروائي الشاب في الإرث الكبير لمن سبقوه، ويسأل نفسه، هل في الإمكان أن أبدع أفضل من ذلك..؟


هذا الإرث الكبير الذي تفتحت عليه أعيننا، يحرك داخلنا الهواجس عما نفعله، وعن الأرض التي نقف عليها في الكتابة، وعن الحيل، والتقنيات، القصص، والحبكات، التيمات، وما يردده الناس عن أنه لا جديد تحت الشمس، وما يردده أساتذة الكتابة في ورش الكتابة عن انحصار موضوعات الرواية الجيدة في بضعة أفكار، لا يخرج أي كتاب جميل عنها.


وأردد في نفسي أن الأدب الجميل، الذي يبقى صالحا دائما للقراءة، يبقى دائما صالحا لأن تصطحبه معك في رحلة سفر، يساعدك لقضاء ساعات طويلة في قطار، هذا الأدب الجميل يتمثل في الروائع التي كتبها كثيرون، ومنهم جابرييل جارسيا ماركيز، الأديب الكولمبي موضوع هذه السطور، الذي حقق معجزة إذ تحول إلى أيقونة عالمية، وبات ميلاده مناسبة يحتفي بها محبو الكتابة والمهتمون بها في كل مكان.


gabriel-garcia-marquezs-google-doodle


في السادس من مارس عام 1927 وُلد جابرييل جارسيا ماركيز، صانع الحكايات الكبير، الذي صنع من مدينة خيالية، أسطورة، هي مدينة "ماكوندو" والذي تحولت روايته "مائة عام من العزلة" إلى سيرة روائية عالمية، يطمح روائيون كبار أن يكتبوا مثلها، وينظر إليها روائيون شبان كما ينظرون إلى جبل شاهق يتعين عليهم الوصول إلى قمته، ما الذي نكتبه، إذا رغبنا أن نكتب عن هذا الجبل الشاهق؟


في أحد الأعمال التي تناولت سيرة رواية "مائة عام من العزلة" وتم ترجمته إلى العربية، بدار العربي للنشر والتوزيع، عمد فنان الكوميكس أوسكار بانتوخا إلى التوثيق لسيرة الرواية، في كتاب كوميكس، اسماه " جابو"، يبدأ بانتوخا كادرات حكايته عن الرواية منذ لحظة التنوير، الكشف الأول الذي يتلقاه ماركيز، الذي يلهمه بكتابة الرواية، حينما كان وزوجته في طريقهما إلى البحر، لقضاء عطلة، فجأة يتوقف، ويترجل من السيارة، ويتذكر اللحظة التي هاجر فيها مع جده، إلى البلدة الصغيرة التي تسمى "أراكاتاكا"، حينما كان جده يعرفه بالثلج، وبملمسه.


يحوي كتاب جابو أربع أجزاء، تناول مؤلفه أوسكار بانتوخا في أولها علاقته الوثيقة بجده، الذي كان يناديه بنابليون الصغير، نرى كيف أثرت قصة المدينة التى استعمرتها شركة الموز،فى مخيلة "ماركيز" الصغير، لقد كان لأحداث فض الاعتصام بالقوة والمذبحة البشعة التى ارتكبها الكولمبيون بحق العمال، أثرها فى تكوين الطفل، الذي يستمع لحكايات جده عن الحرب الأهلية فى كولومبيا بين الليبراليين والمحافظين، المعروفة بحرب الألف يوم، والتي انخرط فيها جد "ماركيز" فى صفوف الليبراليين.


غلاف كتاب جابو


في الجزء الثاني من كتاب جابو، تركز كادرات الكوميكس على مشاهد جلوس "ماركيز" أمام الآلة الكاتبة، تتدحرج المشاهد تدريجيا إلى حياة ماركيز الجامعية، وتأثره البالغ برواية "المسخ"، حينما ينتهي ماركيز من قراءة كافكا، يقول لنفسه: إذا كان تحويل رجل إلى مسخ أمرا بتلك السهولة، فكل شيء آخر ممكن.


"مائة عام من العزلة" فتنة رواية  



"بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكر الكولونيل أويليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد".


حينما وضع جابرييل جارثيا ماركيز روايته، مائة عام من العزلة، غرز شجرة في تربة الرواية العالمية، شجرة يانعة، ممتدة الجذوع، قوية، يمتد من كل منها أوراق كبيرة، وثمار متدلية، ومساحات شتى للطيور لتبنى أعشاشها، ابتنت الطيور وشيدت، ووقف ماركيز أسفل هذه الشجرة وفي ظلها، والعديد من الروائيين يذهبون يوميا إلى شجرته، ليستظلون بظلها، ويُطعمون من ثمارها.


تستمد "مائة عام من العزلة" فتنتها من كونها رواية تزخر بالعديد من الحكايات الفرعية التي تتدلى كلها من حكاية رئيسية، هي حكاية العائلة التي تعيش في المدينة غير المعروفة "ماكوندو" أشهر مدينة في تاريخ الأدب، تأسست أسطورة عائلة "خوسيه أركاديو بوينديا" من كونها عائلة منذورة للعنة، لعنة إنجاب طفل مسخ، بسبب سابقة شهدتها العائلة "عمة لأورسولا متزوجة من عم لخوسيه أركاديو بوينديا" رزقا ابنا أمضى طول الحياة في سروال مكوم ومترهل، ومات بنزيف بعد أن عاش اثنين وأربعين سنة في أقصى درجات العذرية، لأنه ولد ونما بذيل غضروفي، ذيل خنزير.


غلاف مائة عام من العزلة


تتدلى من هذه الحكاية الرئيسية، عناقيد الحكايات الفرعية، عن خوسيه أركاديو الذي يهوى الغجر واختراعاتهم، والطفلين، البكرى منهما الذي يحمل اسما مطابقا لاسم والده، "خوسيه أركاديو" والأصغر الذي يسمى "أوريليانو"، سر فتنة هذه الرواية الحبكات الفرعية، علاقة الابن الأكبر بـ"بيلار تيرنيرا" التي دعتها أمه "أورسولا" للتأكد أن أعضاءه الجسدية سليمة، فإذا به تدخل في علاقة معه، وإذا بالابن الأكبر يختفي مع الغجر، وتمضي "أورسولا" للبحث عنه، مختفية هي الأخرى زهاء الخمسة أشهر، قبل أن تعود لتستقبل حفيدها من بيلار تيرنيرا.


هذه السطور ليست محاولة للمرة الألف لكتابة عرض عن الرواية، بقدر ما هي محاولة لشرح المقصود بعناقيد الحكايات.


هي محاولة أيضا لمناقشة فكرة هذا العمل الآسر، الذي يعجز أي منا عن الفكاك منه، يعود إلى أذهاننا بينما نكتب، يقتحم خيالنا، بينما نحاول أن نبتكر خيالات جديدة.


الرواية السياسية ..معضلة أن تكتب عملا جميلا مثل "خريف البطريرك"


كيف تكتب عملا عن الديكتاتورية، دون أن تقع في فخ المباشرة السياسية المفسدة للأدب..؟ تعطينا "خريف البطريرك" دروسا فنية مهمة عن هذه المعضلة، حينما يتحدث عن الديكتاتور الذي لا يموت، على الرغم من العثور على جثته في مطلع كل فصل من فصول الرواية، وقد التهمتها العقبان، يقول في مستهل الفصل الثاني من الرواية: عندما تتأكد شائعة موته أكثر، كان يلوح أكثر حياة وأكثر سلطة من السابق في اللحظة الأقل افتراضا كي يفرض علينا مرافئ أخرى غير مواتية تتخلل بحر مصيرنا".


غلاف خريف البطريرك


تبدأ الرواية بوصف قصر رئاسي متهدم، يدخله الشعب، فيكتشفون موت الديكتاتور، لم يعرف الناس موت الديكتاتور بخبر في النشرة، بل حينما دخلوا القصر المتهدم، لكن هذا الديكتاتور يستعيد قدرته على الحياة مع كل فصل جديد في الرواية، ومع كل فصل جديد في الحياة، يستعيد الديكتاتور قدرته على العودة للسلطة طالما وجد من يعيدونه إليها، يقول ماركيز في إحدى صفحات الفصل الثاني من روايته: عندما رأت "بندثيون ألفارادو" ابنها في بزته العظيمة مع الميداليات الذهبية وقفازي الساتان، وعندما لم تستطع كبح جماح كبريائها الأمومي صارخة بأعلى صوتها أمام السلك الدبلوماسي بكامله: لو علمت بأن ابني سوف يصير رئيس جمهورية، لكنت أرسلته إلى المدرسة.


ماركيز في صحيفة الاسبكتادور


 


اقرأ أيضا:


رحلة صيدلي إلى "أديس أبابا"..قصة البلد الأخضر الذي لا نعرفه