التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 06:17 ص , بتوقيت القاهرة

أبي وأنا وحافظ إبراهيم.. هوامش على دفتر الست !

أرادت أمي قبل ثلاثين عاما، بنظرة العارفين، أن تدخلني مدرسة لغات، لكن أبي شاء أن يلحقني بمدرسة حكومية. كانت أمي ترى أن المستقبل لمن يتعلم لغات أجنبية، في حين ما كان يعتقد أبي فيه أن الحفاظ على الهوية خير وأبقى. انتصر قرار "الحاج صاحب البيت" وبدأت كطفل صغير أواجه العالم الجديد من نافذة مدرسة الحسينية الابتدائية المشتركة، قبل سنوات خمس من التحاقي بـ "العباسية الإعدادية بنين".


أنا البحر في أحشائه الدر كامن.. فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي


في الصف الأول الإعدادي، كنت عشقت اللغة العربية كما خطط أبي، حفظت ما تيسر من القرآن، واختزن عقلي أبياتا كثيرة من الشعر - لم يعد يحتفظ بمعظمها حاليا -. قادتني شارة برنامج فاروق شوشة في الإذاعة إلى قصيدة "اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها"  فقابلت ثاني "عدودة" في حياتي، كان حافظ إبراهيم ينظم مرثية للغة العربية، بعد أن رأى أن سنوات الاحتلال العثماني ثم الانجليزي قد أثرت في هوية المصريين فاحتلت لغة الغرب جزءا من ثقافتنا وأحاديثنا اليومية وأسماء المحال وخلافه - هذا قبل سنوات طويلة من استخدام شوشة لبيت منها في شارة برنامجه، وقبل سنين أطول من قتلها على أيادي ريكو وأحمد حلمي.



أيطربكم من جانب الغرب ناعب.. ينادي بوأدي في ربيع حياتي


اختارني الأستاذ طارق محمود، سلام الله عليه، للانضمام إلى فريق الإلقاء، وطلب مني أن اختار قصيدة أرتاح في أداءها، فكرت في تكرار قصيدة ألقيتها في مسابقة العام السابق، نظمها الشاعر عمر عسل، اسمها "نار الدواء" وهي كانت "العدودة" الأولى، ولها قصة هي الأخرى، لكني اخترت هذه المرة أن ألقي أبياتا من قصيدة حافظ إبراهيم عن اللغة العربية، فالحقيقة موضوعها وبساطة وزنها وقافيتها أشياء كانت مناسبة لصبي في مثل عمري - لست بحاجة للتدرب على إلقاءها.


لا أتذكر إن فزت وقتها بالجائزة أو أحد المراكز المتقدمة، لكني أذكر أنني أديتها جيدا في مراحل المسابقة، وكان الانطباع عن الولد الصغير مميزا، وكان الأستاذ طارق راضيا، وهو أكثر ما أسعدني، فكنت أحب هذا الرجل، ترى هل لازال يتذكر تلميذا تعلم على يديه قبل 23 عاما؟.


في العام التالي، تغير المشرف على فريق الإلقاء، جاء الأستاذ محمود، تحدث إلي بأن الأستاذ طارق "شكر فيّ" وطلب مني الاستعداد للمسابقة الجديدة.


- الأستاذ طارق قال لي إنك تحب حافظ إبراهيم.. ما رأيك أن تلقي قصيدة "مصر تتحدث عن نفسها".. هل تعرفها؟
- لا.. ولكني أحفظ "اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها" وأحبها، أريد أن ألقيها هذا العام.
- ولكنك شاركت بها العام الماضي، ما رأيك أن تجدد؟، القصيدة التي أعرضها عليك جميلة.. اسمعها بصوت أم كلثوم ستحبها كثيرا.


فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعاتي


لم يكن يعلم الأستاذ محمود أن مصر التي تتحدث عن نفسها في القصيدة ستتحدث مع نفسها فيما بعد، ولم يكن يعلم كذلك أنه باعد بجملته الأخيرة بيني وبين القصيدة التي اختارها، كما باعد الله بين المشرق والمغرب، كيف خطر في بال رجل راشد مثله أن صبيا في سني يمكن أن يحب أم كلثوم؟.


لم تكن علاقتي بالأستاذ محمود، ولا بنيته الضخمة تسمحان لي بالجدال، فعدت إلى البيت ضجرا لا أدري ماذا أفعل - كنت في سن تبدأ فيه مراحل التمرد، ويبدو لي أنني وقتها كنت بدأت أتمرد على فكرة الحفظ ذاتها - لا أريد أن أحفظ قصائد جديدة.


دخلت إلى المنزل، كان عمي - أطال الله عمره - في زيارة لنا، رآني "مكشر مشغول البال"، سألني "مالك؟" فقصصت عليه ما حدث، ضحك وأخبرني أنه يحتفظ بـ "شريط" أم كلثوم في سيارته، وأهداه إليّ - دي مؤامرة!.


في اليوم التالي، ذهبت إلى المدرسة وفي جعبتي حيلة للهروب من "مزنق" الأستاذ محمود الذي ما إن رآني حتى سألني بصوت واثق وفم باسم:


- ها.. سمعت الأغنية
- طبعا
- وإيه رأيك بقى؟
- عظمة
- يعني خلاص هتقول القصيدة؟
- هو فيه حد يقدر يقولها بعد الست؟


فبهت الذي وثق، وعم الضحك أركان حجرة المدرسين، وانتصر الصبي الصغير في معركته، أو هكذا بدا له، فقد كان الأستاذ محمود وشاعر النيل مفاتيح دخولي إلى عالم الست الذي لم أكن أعرف وقتها أنه "اتجاه واحد".    


للتواصل مع الكاتب اضغط هنا


 


المقال يعبر عن رأي كاتبه فقط ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع


اقرأ أيضا:


الله لا يشبعني حب !